على نفسِه نظرًا إلى اختلافِ صفاتِه، وتنزيلاً لتغايرِ الصفاتِ منزلةَ تغايرِ الذواتِ (١). ومن أمثلتِه في القرآنِ قولُه جل وعلا: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (٤)﴾ [الأعلى: الآيات ١ - ٤]، فَالْمُتَعَاطِفَاتُ بالواوِ مدلولُها واحدٌ، إلا أنها عُطِفَتْ بحسبِ تغايرِ الصفاتِ، ونظيرُ هذا من كلامِ العربِ قولُ الشاعرِ (٢):

إِلَى الْمَلَكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمْ
فَعَطَفَ هذه بعضَها على بعضٍ، مع أن الموصوفَ بها واحدٌ، نظرًا إلى تغايرِ الصفاتِ. والدليلُ على أن (الفرقانَ) كتابُ موسى، وأن مَنْ زَعَمَ أن المعنى: آتَيْنَا مُوسَى الكتابَ، ومحمدًا - ﷺ - الفرقانَ، أنه قولٌ باطلٌ، بدليل قولِه (٣) (جل وعلا) في الأنبياءِ: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [الأنبياء: آية ٤٨].
وقوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ أي: لأَجْلِ أن تهتدوا كما بَيَّنَّا. أو على أن إنزالَ هذا الكتابِ يُرْجَى منه أن تَهْتَدُوا؛ لأنه مَظِنَّةٌ لذلك، ومحلٌّ للرجاءِ في هُدَاكُمْ بهذا الكتابِ العظيمِ السماويِّ.
و ﴿تَهْتَدُونَ﴾ معناه: تَسْلُكُونَ طريقَ الْهُدَى، من طاعةِ اللَّهِ جل وعلا، بامتثالِ أوامرِه واجتنابِ نَهْيِهِ.
_________
(١) انظر: القرطبي (١/ ٣٩٩)، المدخل للحدادي ص٢٣٦، أضواء البيان (١/ ٧٧)، (٣/ ١٩٥).
(٢) انظر: الخزانة (١/ ٢١٦).
(٣) انظر: الدر المصون (١/ ٣٥٩)، الأضواء (١/ ٧٧ - ٧٨).
من سورةِ الأنعامِ، وَدَلَّ الحديثُ الصحيحُ المتفقُ عليه (١). وهذا القسمُ هو أن يكونَ هذا الأمرُ جائزًا أو مطلوبًا، وليس في نفسِه فسادٌ في ذاتِه، أو فيه خَيْرٌ، إلا أنه يُؤَدِّي إلى شَرٍّ عظيمٍ، كَسَبِّ الأصنامِ، فإنه في ذاتِه طَيِّبٌ مَطْلُوبٌ، إلا أنه لَمَّا كانَ يكونُ سَبَبًا لِسَبِّ اللَّهِ كان مُحَرَّمًا.
ومن هذا النوعِ، وهي الذريعةُ التي يجبُ سَدُّهَا إجماعًا: حفرُ الآبارِ في طُرُقِ المسلمينَ، فلو جاءَ رجلٌ إلى طريقِ المسلمين وَحَفَرَ فيها بِئْرًا لَيْلاً، وَغَطَّى فَمَ البئرِ بشيءٍ خفيفٍ، فَمَنْ جاء مع الطريقِ وَتَرَدَّى في البئرِ فَفِعْلُهُ وحفرُه البئرَ ليس نفسَ إهلاكٍ لنفسٍ ولا مَالٍ، ولكنه ذريعةٌ لذلك يجبُ سَدُّهَا وَمَنْعُهَا بالإجماعِ.
ومن هذا النوعِ: إلقاءُ السُّمِّ في مياهِ المسلمين وأطعمتِهم. فإلقاءُ السمِّ في مياهِ المسلمينَ التي يشربونَ، وإلقاؤُه في أطعمتِهم ذريعةٌ للفسادِ يجبُ سَدُّهَا بإجماعِ المسلمين.
هذا إحدى أنواعِ الذرائعِ الثلاثِ؛ لأَنَّ نَوْعًا منها يجبُ سَدُّهُ بإجماعِ المسلمين كما مَثَّلْنَا له وَدَلَّتْ عليه هذه الآيةُ الكريمةُ من سورةِ الأنعامِ: ﴿وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ وفي الحديثِ الصحيحِ المتفقِ عليه عن النبيِّ - ﷺ - أنه قَالَ: «إِنَّ مِنَ
_________
(١) سيأتي قريبًا.
باسم كل إنسان، ومنزلاً في النار باسم كل إنسان. فإذا أدخل الله أهل الجنة الجنة وأهل النار النار أطلع أهل الجنة على منازلهم في النار لو أنهم كفروا بالله وعصوه لتزداد غبطتهم وسرورهم بما هم فيه، وعند ذلك يقولون: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله﴾ [الأعراف: آية ٤٣] ثم إنه يُري أهل النار منازلهم في الجنة لو أنهم أطاعوا الله وآمنوا واتقوا لتزداد ندامتهم وحسرتهم، وعند ذلك يقول الواحد منهم: ﴿لَوْ أَنَّ الله هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [الزمر: آية ٥٧] ثم إن الله يحكم بمنازل أهل النار في الجنة لأهل الجنة، وبمنازل أهل الجنة في النار لأهل النار، ومن كانت صفقته بيع منزله في الجنة بمنزل غيره في النار فصفقته خاسرة، وهو من الخاسرين بلا شك. هكذا قال بعض العلماء وهذا معنى قوله: ﴿فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ﴾ [الأعراف: آية ٩].
(ما) هنا مصدرية، والباء سببية. يعني: خسروا أنفسهم بسبب كونهم ظالمين بآياتنا.
قال بعض العلماء (١): إنما عدّى الظلم هنا بالباء لأنه مُضمّن معنى الكفر والجحود، والجحود يُعدّى بالباء كقوله: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا﴾ وقد جاء في القرآن تسمية الجحود في الآيات (ظلماً) كما قال تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً﴾ [النمل: آية ١٤].
وقوله: ﴿بِآيَاتِنَا﴾ قد قدمنا في هذه الدروس (٢) أن الآيات
_________
(١) انظر: الدر المصون (٥/ ٢٥٧).
(٢) مضى عند تفسير الآية (٧٣) من سورة البقرة.
يحققهما كما هو معروف في محله: ﴿ءَامَنتُم بِهِ﴾ أي: أآمنتم به أيها السحرة؟ آمنتم بموسى قبل أن آذن لكم في ذلك؟ ﴿إِنَّ هَذَا﴾ الذي تواطأتم أنتم وهو عليه ﴿لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ﴾ [الأعراف: آية ١٢٣] لحيلة احتلتموها وتوافقتم عليها وتواطأتم عليها لتخرجوا أهل البلد من بلادهم -وهم القبط- وتُسكنوا في أرضهم بني إسرائيل، وتتفقوا معهم على ذلك!! وهذا فعله فرعون مكرًا منه وخداعًا، وخوفًا منه أن تتبع الناس السحرة فيؤمنوا بموسى!! [فادعى] (١) أن موسى والسحرة تواطئوا على مكر خبيث يريدون ظلم أهل البلد وإخراجهم من بلدهم وإسكان غيرهم فيه -قبّحه الله- وهذا معنى قوله: ﴿إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ﴾ يعني: إيمانكم أنتم بموسى وسجودكم لربه وموافقتكم له ﴿مَكْرَ﴾ أي: حيلة احتلتم أنتم وإياه بها، احتلتم بها على أهل البلد لتخرجوهم من بلادهم، وهذا معنى قوله: ﴿لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ﴾ بعضهم يقول: المدينة التي وقع فيها: الإسكندرية. والله تعالى أعلم.
﴿لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا﴾ لأجل أن تخرجوا منها أهلها باتفاقكم عليهم ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ أي: فسوف تعلمون ما أُنكلكم به من التعذيب على مكركم وموافقتكم مع موسى [١٧/أ] على المكر، وإخراج أهل الأرض منها. ثم بين ما يعدهم به/ فقال: ﴿لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ﴾ [الأعراف: آية ١٢٤] الأيدي: جمع يد، ووزنه (أَفْعُل) والأرجل كذلك وزنه (أَفْعُل) ومعلوم أن (أَفْعُل) من جموع القلة، إلا أن المقرر في الأصول وفي علوم العربية: أن جموع القلة لا تكون جموع قلة إلا إذا كانت مُنكَّرة خاصة، أما إذا أُضيفت إلى معارف فهي صيغ عموم، وهي إذًا من جموع الكثرة.
_________
(١) في الأصل: فجعل.
﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ [الحديد: الآية ٤] لأن جميع الكائنات بسماواتها وأرضها في يد خالق السماوات والأرض أصغر من حبة خردل، فهو مع جميعها بالإحاطة الكاملة العظيمة وبالإحاطة العلمية ونفوذ التصرف كما لا يخفى. وهذا معنى قوله: ﴿وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال: الآية ٤٦].
لما أمرهم جل وعلا بالأوامر النافعة الكفيلة بالنجاة والسلامة مِنَ الفَشَلِ وذَهاب الريح نهاهم عن أضدادها المستوجبة للفشل وذهاب الريح والانهزام قال: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ﴾ [الأنفال: الآية ٤٧] النهي معطوف على الأمر، لأن قوله: ﴿فَاثْبُتُواْ﴾ [الأنفال: الآية ٤٥] أمر. وقوله: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ﴾ نهْي. والأمر والنهي كلاهما إِنْشَاء، يُعطف كل منهما على الآخر بلا نزاع. وإنما الخلاف بين العلماء في عطف الإنشاء على الخَبَرِ، أو الخبر على الإنشاء، فمنعه جماعة من العلماء. والتحقِيقُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ القرآن العظيم واستقراء اللغة العربية: هو جَوَازُ عَطْفِ الخَبَرِ عَلَى الإنشاء، والإنشاء على الخبر (١)، وإن ظن مَنْعه جماعة من علماء البلاغة (٢) ومن النحويين. ومن عطف الإنشاء على الخبر في القرآن العظيم قوله تعالى عن أبي إبراهيم: ﴿أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً﴾ [مريم: الآية ٤٦] فقوله: ﴿لَئِن لَّمْ تَنتَهِ﴾ الآية، خبر، وقوله: ﴿وَاهْجُرْنِي﴾ إنشاء؛ لأنه أمر، فهو إنشاء معطوف على خبر، وهذا المعنى معروف في كلام العرب، ومنه قول امرئ القيس (٣):
_________
(١) انظر: ضياء السالك (٣/ ٢١٤، ٢٢٠)، التوضيح والتكميل (٢/ ١٨٩).
(٢) انظر: المقتصد (٢/ ٩٥٨).
(٣) ديوانه ص١١١.


الصفحة التالية
Icon