وقد قَدَّمْنَا (١) أن هذا المفعولَ الثانيَ في (اتخاذهم العجلَ إِلَهًا) محذوفٌ في جميعِ القرآنِ، وأن بعضَ العلماءِ قال: النكتةُ في حذفِه دائمًا هي التنبيهُ على أنه لا ينبغي أن يُتَلَفَّظَ بأن عِجْلاً مُصْطَنَعًا من حُلِيٍّ إِلَهٌ.
وقال جل وعلا: ﴿فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ﴾ الفاءُ سببيةٌ، وقد تقررَ في فَنِّ الأصولِ في مسلكِ (الإيماءِ والتنبيهِ) (٢) أن الفاءَ من حروفِ التعليلِ، وأن ما قَبْلَهَا علَّة لِمَا بَعْدَهَا، كقولهم: «سَهَا فَسَجَدَ»، أي: لِعِلَّةِ سَهْوِهِ، و «سرق فقُطِعَتْ يدُه» أي: لعلةِ سرقتِه، ﴿ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا﴾ أي: لعلةِ ظُلْمِكُمْ. ﴿فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ﴾ قد قدَّمنا معنى التوبةِ واشتقاقَها في أولِ هذه السورةِ الكريمةِ.
وقولُه: ﴿إِلَى بَارِئِكُمْ﴾ أي: خَالِقُكُمْ وَمُبْرِزُكُمْ من العدمِ إلى الوجودِ. وقد ذَكَرَ (جل وعلا) الخالقَ البارئَ من صفاتِه كما قال في أخرياتِ الحشرِ: ﴿الخَالِقُ البَارِئُ﴾ [الحشر: آية ٢٤]، و (الخالقُ) اسمُ فاعلِ الخلقِ، والخلقُ في اللغةِ: التقديرُ. و (البارئُ) هو الذي يَفْرِي ما خَلَقَ؛ فمعنى خَلَقَ: قَدَّرَ، ومعنى بَرَأَ: أنفذَ ما قَدَّرَ، وأبرز من العدمِ إلى الوجودِ،
والعربُ تُسَمِّي التقديرَ خَلْقًا، ومنه قولُ زهيرِ بنِ أَبِي سُلْمَى (٣):

وَلأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وبَعْـ ـضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لاَ يَفْرِي
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥١) من سورة البقرة.
(٢) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (١/ ١٧١) شرح الكوكب المنير (٣/ ٤٧٧) (٤/ ١٢٥).
(٣) القرطبي (١/ ٢٢٦)، الدر المصون (١/ ١٨٨).
والحاصلُ أن المفسدةَ إذا عَارَضَتْهَا مصلحةٌ فلذلك ثلاثُ حالاتٍ:
إما أن تكونَ المصلحةُ أعظمَ وأرجحَ، والمفسدةُ أَقَلَّ وهي مَرْجُوحَةٌ.
وإما أن تكونَ المفسدةُ أعظمَ.
وإما أَنْ يَسْتَوِيَا.
فإن كانت المصلحةُ أعظمَ - كما مَثَّلْنَا - أُلْغِيَتِ الذريعةُ وَأُهْدِرَتْ.
وإن كانت المفسدةُ أعظمَ أَوِ اسْتَوَيَا فإنه يجبُ سَدُّ الذريعةِ فيهما.
ومثالُهما معًا: ما لو كان من المسلمين أُسَارَى عند الكفارِ في الجهادِ مع الكفارِ، فَأَسَرَ الْعَدُوُّ من الكفارِ أَسْرَى من المسلمين، وَطَلَبَ إمامُ المسلمين فداءَ الأَسْرَى المسلمين من أيدِي الكفارِ، فقال الكفارُ: لا نَقْبَلُ فداءَهم إلا بسلاحٍ، وكان هذا السلاحُ يُقْدِرُهُمْ على الفتكِ بالمسلمين، فإن كان بقدرِ الظنِّ والتخمينِ أنهم يقتلونَ من المسلمين بذلك السلاحِ قدرَ الأُسَارَى أو أكثرَ منهم، فمصلحةُ فداءِ الأُسَارَى تُعَارِضُهَا مفسدةُ قتلِ عددِهم من المسلمين أو أكثرَ، فيجبُ سَدُّ هذه الذريعةِ، ولاَ يُفْدَى أولئك الأُسَارَى.
أما إذا كان السلاحُ لا يَقْدِرُ به الكفارُ على أن يقتلوا المسلمين، فإن هذه المفسدةَ تكونُ مرجوحةً، ويجوزُ فداؤُهم. هذانِ نوعانِ من أنواعِ سَدِّ الذرائعِ، الأولُ مُجْمَعٌ على سَدِّهِ، والثاني مُجْمَعٌ على
رَّبِّكُمْ} [الأعراف: آية ٣] وذلك الذي أُنزل إليهم من ربهم أعظمه الآيات السماوية القرآنية التي تُتلى، وآيات الكتب، فلما ظَلَمُوا بها وجحدوا بها كانوا ظالمين ودخلوا النار.
ومن الآية الشرعية الدينية قوله تعالى: ﴿رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ الله﴾ [الطلاق: آية ١١] ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾ [الجمعة: آية ٢] فالآية الكونية القدرية في القرآن من الآية بمعنى العلامة بلا نزاع، والآية الشرعية الدينية قيل هي من الآية بمعنى الجَمَاعة؛ لأن كل آية اشتملت على جماعة وجملة من حروف القرآن وألفاظه متضمنة لبعض ما فيه من الإعجاز والعقائد والحلال والحرام. وقيل أيضاً: إنها من العلامة؛ لأنها علامات على صِدْقِ مَنْ جَاءَ بِهَا؛ ولأن لها مبادئ ومقاطع هي علامات على انتهاء هذه الآية وابتداء الأخرى. وهذا معنى قوله: ﴿بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ﴾ [الأعراف: آية ٩].
﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (١٠) وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (١١) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (١٢) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣)﴾ [الأعراف: الآيات ١٠ - ١٣].
لما أمر الله (جل وعلا) خلقه في أول هذه السورة الكريمة فقال لهم: ﴿اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء﴾ [الأعراف: آية ٣] ثم إنه وعظهم وأخبرهم أنه يسألهم، وأنه يقصُّ عليهم أعمالهم بعلم، وأنه لم يكن غائباً عن شيء عملوه في دار الدنيا، وأنه يزن أعمالهم بميزان فلا يخيس شعيرة، بيّن لهم أنه أنعم عليهم في دار
الإيماني العظيم، وقالوا له كأنهم يقولون له: ﴿فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ﴾ [طه: آية ٧٢] وأوعد من العذاب ما أنت واعد فنحن لا نبالي بك ولا نرائي بك ﴿إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ﴾ [الأعراف: آية ١٢٥] راجعون إلى رب رحيم كريم عظيم الجزاء سنجد عنده من النعيم ما يُنسينا جميع مضار الدنيا وما فيها من البؤس، كأنهم برغبتهم فيما عند الله وعلمهم بما يجازيهم به الله من النعيم سقط من أعينهم عذاب الدنيا، وصاروا يعتقدونه كَلاَ شيء، وهذا هو الصحيح بالآية، وقد بيّنه الله في سورة الشعراء، وبيّنه بإيضاح: أنه لما ذكر في سورة الشعراء أن فرعون توعدهم هذا التوعد بالعذاب في قوله: ﴿لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤)﴾ [الأعراف: آية ١٢٤] أجابوه قائلين كما قصّ الله عنهم في سورة الشعراء: ﴿قَالُوا لاَ ضَيْرَ﴾ [الشعراء: آية ٥٠] (لا ضير) الضير معناه: الضرر. قالوا: ضَارَّه يضيره ضيرًا، وضره يضره ضرًّا بمعنى واحد، كما قدمنا إيضاحه بشواهده في قوله: ﴿لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شيئًا﴾ على قراءة: ﴿لا يَضِرْكُم كيدهم شيئًا﴾ [آل عمران: آية ١٢٠] (١).
وقوله: ﴿لَا ضَيْرَ﴾ بناه مع (لا)، والنكرة المبنية مع (لا) تدل على أن (لا) هي التي لنفي الجنس، فكأنهم نفوا جنس الضرر في عذاب الدنيا واحتقروه وهان في أعينهم ورأوه لا شيء بالنظر إلى ما عند الله. ثم بينوا علّة انتفاء ذلك الضرر في أعينهم فقالوا: ﴿إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ﴾ [الأعراف: آية ١٢٥] كما يوضح آية الأعراف هذه.
ثم قالوا موضحين: {إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص١٦٨.
تسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا ﴿وَرِئَاء النَّاسِ﴾ [الأنفال: الآية ٤٧] هو الذي يفعل الفعل لأجل أن يراه الناس فيحمدونه عليه، ويعظمونه عليه لا لوجه الله. وهذا معنى قوله: ﴿كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً﴾ أي: لأجل البطر. أو: بطرين متكبرين عن الحق، متصفين بالفخر والخيلاء.
وقال بعض العلماء: البطر: التكبر عن الحق مع غمط الناس حقوقهم.
قال بعضهم: البطر: سوء احتمال النعمة، فمَنْ أنْعَمَ الله عليه نعمة وصار يعمل فيها عمل الإسراف فيما لا يرضي فهو مِن البَطِرِينَ. وعلى كل حال فهم بطرون؛ لأنهم تكبروا عن قبول الحق، وغمطوا الناس حقوقهم، وجاءوا في فخر وخيلاء. وفي قصة بدر أن النبي ﷺ لما رآهم متصوِّبِينَ مِنْ كَثِيب بدر قال: «اللَّهُمَّ هَذِهِ قُرَيْشٌ أَقْبَلَتْ تَحَادُّكَ وتُكَذِّبُ رَسُولَكَ، هَذِهِ قُرَيْشٌ أَقْبَلَتْ بِفَخْرِهَا وَخُيَلائِهَا - وهو محل الشاهد - تحادّك وتكذب رَسُولَكَ، اللَّهُمَّ أحْنِهِمُ الغَدَاةَ» (١) كما هو معروف في محله. وهذا معنى قوله: ﴿كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ﴾ هم أبو جهل وأصحابه من النفير الذين قُتل أشرافهم، وأسروا على شفير بدر كما هو معروف.
وكان بعض العلماء يقول (٢): أفخر بيت قالته العرب بيت حسان بن ثابت (رضي الله عنه) في بدر حيث يقول (٣):
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٩) من هذه السورة.
(٢) انظر: البدابة والنهاية (٣/ ٢٧٩).
(٣) لفظ الشطر الأول في المصدر السابق:
«وببئر بدر إذ يكف... »


الصفحة التالية
Icon