وقولُ الراجزِ (١):

قَالَتْ سُلَيْمَى اشْتَرْ لَنَا سَوِيقَا وَهَاتِ خُبْزَ البُرِّ أَوْ دَقِيقَا
وقولُه: ﴿فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ كأنهم قالوا: بِمَ نتوبُ إلى بارئنا توبةً يقبلها منا؟ قيل لهم: ﴿فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾. أو الفاء للتعقيبِ (٢)؛ لأن هذا القتلَ عَقِبَ الذنبِ هو الذي حَصَلَتْ به التوبةُ.
وأصلُ القتلِ في لغةِ العربِ (٣): إزهاقُ الروحِ بشرطِ أن يكونَ مِنْ فِعْلِ فاعلٍ، كالطعنِ، والضربِ، والخنقِ، وما جرى مَجْرَى ذلك، أما إزهاقُ الروحِ بلا سببٍ من ضربٍ أو نحوِه فهو موتٌ وهلاكٌ لا قتلٌ.
وقال بعضُ العلماءِ: القتلُ إماتةُ الحركةِ.
وقد تُطْلِقُ العربُ مادةَ القافِ والتاءِ واللامِ على غيرِ إزهاقِ الروحِ، فَتُطْلِقُهُ على التذليلِ، فالتقتيلُ: التذليلُ، وَتُطْلِقُ القتلَ أيضًا على إضعافِ الشدةِ، فَمِنْ إطلاقِ التقتيلِ على التذليلِ قولُ امرئِ القيسِ (٤):
وَمَا ذَرَفَتْ عَيْنَاكِ إِلاَّ لِتَضْرِبِي بِسَهْمَيْكِ فِي أَعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّلِ
_________
(١) البيت للعذافر الكندي، وقد ورد بروايات متعددة، انظر: المحتسب (١/ ٣٦١)، الخصائص (٢/ ٣٤٠).
(٢) انظر: البحر المحيط (١/ ٢٠٨).
(٣) انظر: المفردات (مادة: قتل) ص٦٥٥.
(٤) ديوان امرئ القيس ص١١٤.
رِبًا، وَآكِلُ الرِّبَا محاربُ اللَّهِ؛ لأَنَّ أكلَ الربا هو محاربةُ اللَّهِ، ومن أعظمِ الدَّوَاعِي للغَلَبَةِ في الجهادِ أَكْلُ الرِّبَا؛ لأَنَّ آكِلَ الربا محاربُ اللَّهِ، ومحاربُ اللَّهِ لا يُفْلِحُ ولا ينجحُ، وَاللَّهُ يقولُ في مُحْكَمِ كتابِه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [البقرة: الآيتانِ ٢٧٨ - ٢٧٩] فلما كان آكِلُ الرِّبَا حَرْبًا لِلَّهِ ولرسولِه، لا يمكنُ أن يكونَ مُجَاهِدًا من حزبِ اللَّهِ ورسولِه؛ لأن الضِّدَّيْنِ لاَ يجتمعانِ. وهذا هو مرادُ عائشةَ (رضي الله عنها)؛ لأنه إن لم يَرْجِعْ عن هذا أَبْطَلَ جِهَادَهُ.
وهذا معنَى قولِه: ﴿وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: آية ١٠٨] في هذه الآيةِ الكريمةِ سؤالٌ عربيٌّ معروفٌ، وهو أن لفظَ ﴿الَّذِينَ﴾ ولفظَ ﴿يَدْعُونَ﴾ مِنْ خَوَاصِّ العقلاءِ، ومعبوداتُهُمْ أصنامٌ وحجارةٌ لاَ تعقلُ، فكيف يُعَبَّرُ عنها بـ ﴿الَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ التي هي صفةُ العقلاءِ الذكورِ؟
والجوابُ عن هذا: أن القاعدةَ المقررةَ في علمِ العربيةِ أَنَّ كُلَّ شيءٍ غيرِ عاقلٍ إذا نَزَّلَهُ بعضُ الناسِ منزلةَ العاقلِ، أو وَصَفَهُ ببعضِ صفاتِ العاقلِ أنه يُجْرَى مَجْرَى العاقلِ (١)؛ ولذا قال تعالى في رُؤْيَا يوسفَ: ﴿إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (٤)﴾ [يوسف: آية ٤]، فجاءَ بـ ﴿سَاجِدِينَ﴾ الذي هو جمعُ مذكرٍ سالمٍ يختصُّ بالعقلاءِ، للكواكبِ والشمسِ والقمرِ؛ لأنه وَصَفَهُمْ بالسجودِ، والسجودُ مِنْ خَوَاصِّ العقلاءِ؛ ولهذا المعنَى قال تعالى عن السماواتِ والأرضِ: ﴿قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (١١)﴾ [فصلت: آية ١١] لأَنَّ السماواتِ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٣٨) من هذه السورة.
وفي جمع (المدينة) مدائن، وكذلك الواو والألف كلها إذا كانت زوائد أُبدلت من مَدَّتها في جمع التكسير المتناهي: هَمْزاً، فتقول في (السحابة): سحائب. فتبدل الهمزة من الألف، وفي (القلادة): قلائد، وفي (العجوز)... -بالواو- عجائز، فالهمزة مبدلة من الواو؛ لأن المَدَّة الثالثة زائدة. أما (معيشة) فالياء التي بعد العين فأصلها من الكلمة، أصلها: مَعْيِشَة (مفعِلة) -بكسر العين- وقيل: مَعْيَشَة (مَفْعَلة) -بفتح العين- والأول أظهر، نُقلت حركة العين المعتلة للساكن الصحيح، وسكونه إليها، فصارت (معيشة) فالياء أصلية (١). فيجب أن تُجمع على معايش بكسر الياء.
وكذلك غيرها من الواويات يجب تصحيح الواو إذا كانت المَدَّة أصلية، فتقول في (المَقَام): مَقَاوِم، وفي (المَعُونة): مَعَاوِن، وتقول في كل ما هو أصلي بالواو كمَخَافَة، ومَخاوِف، ومَلامَة، ومَلاوِم؛ لأن المَدَّة فيها أصلية، كمعيشة، ومعايش. ومن تصحيح ما أصله واو قول الشاعر (٢):
وَإِنِّي لَقَوّامٌ مَقَاوِمَ لمْ يَكُنْ جَرِيرٌ وَلاَ مَوْلَى جَرِيرٍ يَقُومُهَا
صحح واو (مَقَاوِم) ولم يقل: مقائم؛ لأن الألف في المقام أصلية في محل العين، ومنه قول الآخر (٣):
وَمَا هِيَ إِلاَّ بِنْتُ خَمْسٍ وَأَرْبَعٍ مَغَاوِر هَمَّامٍ عَلَى حَيِّ خَثْعَمِ
فصحح الواو، وهو جمع (مُغار) من: أغار القوم على القوم،
_________
(١) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص١٩٨.
(٢) البيت للأخطل وهو في ديوانه ص٣٢٢.
(٣) لم أقف عليه.
ما نقِموا من بني أُمَيَّةَ إلا أنهم يَضرِبُون فَيَغْلِبُون
وهو كثير في كلام العرب، كقوله: ﴿أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ [الحج: آية ٤٠] ومنه قول نابغة ذبيان (١):
ولا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهُمْ بِهِنَّ فلُولٌ مِنْ قِراعِ الكَتَائبِ
وهذا معنى قوله: ﴿إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا﴾ [الأعراف: آية ١٢٦] اصبب علينا صبرًا عظيمًا نواجه به نكال هذا الجبار.
والصبر في لغة العرب التي نزل بها القرآن: هو حبس النفس عن المكروه، تقول: صبرت نفسي. ومنه قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ﴾ ومادته تتعدى وتلزم، ومن تعديها قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ﴾ [الكهف: آية ٢٨] وقول عنترة العبسي (٢):
فَصَبَرْتِ عَارِفَةً بِذَلِكَ حُرَّةً تَرْسُو إِذَا نَفْسُ الجَبَانِ تَطَلَّعُ
كما هو معروف.
والصبر في اصطلاح الشرع (٣) خصلة عظيمة يندرج فيها جميع خصال الإسلام؛ ولذا قال الله: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: آية ١٠] ومن سادات الصابرين: الصائمون؛ لأنهم صبروا لله عن شهوات بطونهم وفروجهم طاعة لربهم.
والصبر في اصطلاح الشرع يستلزم الصبر عن جميع المعاصي
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٣٨) من سورة الأنعام.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٤٥) من سورة البقرة.
(٣) السابق.
الثالث: العزم المصمم؛ لأن عزم الإنسان وتصميمه على الفعل بحيث لا يمنعه منه إلا العَجْز عنه هذا الفعل الذي صَمَّمَ عليه وعزم عليه فكأنه عمله بعزمه وتصميمه، فهو عمل يزينه الشيطان ويُؤْخَذ به فيثاب ويعاقب عليه، والدليل على أن هذا العزم المصمم أنه من جملة العمل الذي يدخل صاحبه النار مثلاً: ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما -أعني البخاري ومسلماً رحمهما الله- من حديث أبي بكرة رضي الله عنه: «إذا الْتَقَى المُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالقَاتِلُ وَالمَقْتُولُ فِي النَّارِ» قالوا: يا رَسُول الله قد عرفنا القاتل فما بال المقتول؟! فهؤلاء الناس سألوا رَسُول الله ﷺ أن يُبرز لهم ويبين العمل الذي دخل بسببه المقتول النار؛ لأنه لم يَقتل!! فأجابهم ﷺ في هذا الحديث الصحيح المتفق عليه: «إِنَّهُ كَانَ حَرِيصاً عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ» (١). والجواب على طبق السؤال، فبيّن أن عمله الذي أدخله النار حرصه على قتل أخيه، وهو عزمه المصمم وإن لم يتمكن منه.
أما العزم الغير المصمم بأن يخطر في ذهنه أنه يفعل كذا ثم يراقب الله فيتركه، فتلك السيئة التي همّ بها تكتب له حسنة؛ لأنه تركها خوفاً من الله. وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً» (٢) لأنه تَرَكَهَا خَوْفاً مِنْ رَبِّهِ فَكَانَ ذَلِكَ حَسَنَةً؛ ولذلك كان جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) وهو مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، وَبَنُو سَلَمَةَ وبنو حارثة -من الأنصار- هم الذين أنزل الله فيهم يوم أحد: ﴿إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ﴾ [آل عمران: الآية ١٢٢] قال:
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٤) من سورة الأنعام.
(٢) السابق.


الصفحة التالية
Icon