أي: مُذَلَّلِ. وقول زُهَيْرٍ (١):

كَأَنَّ عَيْنَيَّ فِي غَرْبَيْ مُقَتَّلةٍ مِنَ النَّوَاضِحِ تَسْقِي جَنَّةَ سُحُقَا
أي: مُذَلَّلَة.
وكذلك يطلق القتلُ على كسرِ الشِّدةِ، ومنه قتلُ الخمرِ بالماءِ، أي: كسرُ شِدَّتِهَا بالماءِ، كما قال حسانُ (رضي اللَّهُ عنه) (٢):
إِنَّ الَّتِي نَاوَلْتَنِي فَرَدَدْتُهَا قُتِلَتْ قُتِلَتْ فَهَاتِهَا لَمْ تُقْتَلِ
يعني بِقَتْلِهَا: إضعافُ شِدَّتِهَا بمزجها بالماءِ.
وقولُه: ﴿فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾ جمعُ قِلَّةٍ؛ لأن (الأَفْعُل) من صيغِ جموعِ القلةِ (٣). وما يَزْعُمُهُ بعضُ النحويين والمفسرين من أن مثلَ هذه الآيةِ جِيءَ فيه بجمعِ القلةِ موضعَ جمعِ الكثرةِ فهو خلافُ التحقيقِ؛ لأن ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾ أُضِيفَ إلى معرفةٍ، واسمُ الجنسِ مُفْرَدًا كان أو جَمْعًا إذا أضيفَ إلى معرفةٍ اكتسبَ العمومَ (٤). والشيءُ الذي يعمُّ جميعَ الأفرادِ لا يُعْقَلُ أن يقالَ فيه: إنه جَمْعُ قِلَّةٍ؛ لأن جمعَ القلةِ لا يتعدى العشرةَ، وهو بعمومِه يشملُ آلافَ الأفرادِ، فالتحقيقُ ما حَرَّرَهُ علماءُ الأصولِ في مبحثِ التخصيصِ (٥) من أن جموعَ القلةِ وجموعَ الكثرةِ لا يكونُ الفرقُ بينها ألبتةَ إلا في التنكيرِ، أما في التعريفِ فإن
_________
(١) انظر: البحر المحيط (٧/ ٣٤)، اللسان (مادة: سحق) (٢/ ١٠٩)، الدر المصون (٨/ ٥٤١).
(٢) ديوان حسان بن ثابت ص١٨٥، الخزانة (٢/ ٢٣٨).
(٣) انظر: التوضيح والتكميل (٢/ ٣٩١).
(٤) مضى عند تفسير الآية (٤٧) من هذه السورة.
(٥) انظر: البحر المحيط للزركشي (٣/ ٨٤ - ٩٣).
سَبْعٌ والأرضين سَبْعٌ، فصارت أربعةَ عشرةَ جُزْءًا؛ وَلِذَا قال: ﴿أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ لأنه لَمَّا أَمَرَهَا وَخَاطَبَتْهُ صَارَتْ متصفةً بصفاتِ العقلاءِ. وهذا أَمْرٌ عَامٌّ معروفٌ، ومن شواهدِه في كلامِ العربِ قولُ الشاعرِ في هذا المقامِ (١):
إِذَا مَا الْغَانِيَاتُ بَرَزْنَ يَوْمًا... وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ وَالْعُيُونَا...
تَرَى مِنَّا الأُيُورَ إِذَا رَأَوْهَا قِيَامًا رَاكِعِينَ وَسَاجِدِينَا (٢)
فَوَصْفُ «سَاجِدِينَ» و «رَاكِعِينَ» وصَفَ بها ذلك الجزءَ من الإنسانِ الذي لا يعقلُ لَمَّا وصفَه بصفةِ العاقلِ، وهذا أسلوبٌ عَرَبِيٌّ معروفٌ، والكفارُ وَصَفُوا الأصنامَ بصفاتِ العاقلِ حيث قالوا: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر: آية ٣] ﴿هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ [يونس: آية ١٨] فلما وَصَفُوهُمْ هذه الصفاتِ أُجْرِيَ عليهم ذلك اللفظُ وإن كانوا في الحقيقةِ أخسَّ شيءٍ. وهذا معنَى قولِه: ﴿وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: آية ١٠٨].
ثم قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ﴾ [الأنعام: آية ١٠٨] كما زَيَّنَّا لهؤلاءِ الكفرةِ الكفرَ. وهذا التزيينُ معناه - والعياذُ بالله -: صَرْفُ قُدَرِهِمْ وإراداتِهم إلى ما سَبَقَ عليهم به الكتابُ الأَزَلِيُّ - كما كنَّا نُبَيِّنُ - لِكُلِّ أُمَّةٍ من الأممِ عملَهم؛ إِنْ خَيْرًا فخيرٌ وإن شَرًّا فَشَرٌّ.
_________
(١) البيت الأول للراعي النميري، وهو في الخصائص (٢/ ٤٣٢)، تأويل مشكل القرآن ص ٢١٣ أوضح المسالك (٢/ ٥٨).
(٢) هذا البيت ليس من القصيدة، وإنما هو لبعض المُجَّان. والبيت الأول للراعي النميري، وهو في الخصائص (٢/ ٤٣٢)، مشكل غريب القرآن لابن قتيبة ص ٢١٣، الدر المصون (٣/ ١٨٨)، النهاية في غريب الحديث (٢/ ٢٣٧).
يغيرون إغارة، ومُغاراً، وألِفُ المُغار أصلية.
والحاصل أن المَدَّة الأصلية تُصَحَّح في جمع التكسير، سواء كانت ياء، أو واواً، والمَدَّة الزائدة تُبدل همزة، سواء كانت ألفاً، أو ياء، أو واواً (١). فالقراءة الصحيحة التي عليها العشرة وجمهور القراء الموافقة لقاعدة اللغة العربية: ﴿مَعَايِشَ﴾ بكسر الياء.
والمعايش: جمع معيشة، والمراد: ما يعيشون به في دار الدنيا، مما سبَّبَ لهم من أسباب المعيشة، مما جعل لهم من الثمار، والزروع، والدواب، وجعل لهم في الدواب من الألبان، والأسمان، والأزباد، واللحوم إلى غير ذلك مما هيأه لهم في دار الدنيا إكراماً منه عليهم يعيشون به في دار الدنيا. وهذا معنى قوله: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ﴾ [الأعراف: آية ١٠].
ثم إن الله عابهم فقال: ﴿قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ﴾ [الأعراف: آية ١٠] فـ ﴿قَلِيلاً﴾ نعت لمصدر محذوف، و (ما) توكيد للقلة. والمعنى: ﴿تَشْكُرُونَ﴾ شكراً قليلاً ما؛ لأنه لا يخلو إنسان من شكر في الجملة.
وأصل الشكر في لغة العرب (٢): أصل مادته تميل إلى معنى الظهور، والعرب تقول: ناقة شكور: إذا كان يظهر عليها السِّمن، والشكر يُطلق في القرآن من الرب لعبده، ومن العبد لربه، فمن إطلاق شكر العبد لربه قوله: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾ [لقمان:
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ٣١٦ - ٣١٧)، القرطبي (٧/ ١٦٧ - ١٦٨)، الدر المصون (٥/ ٢٥٧ - ٢٥٨).
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥٢) من سورة البقرة.
ولو اشتعلت نار الشهوات، والصبر على الطاعات وإن كان كالقابض على الجمر، والصبر على البلايا عند الصدمة الأولى كما طلبه هؤلاء؛ لأنهم في بلية ومحنة كبرى يطلبون الصبر عليها، ويدخل فيه الصبر على الموت تحت ظلال السيوف عند التقاء الصفين (١).
وقوله: ﴿مُسْلِمِينَ﴾ [الأعراف: آية ١٢٦] قدمنا مرارًا معنى الإسلام والإيمان، وأن الإسلام في لغة العرب معناه: الإذعان والانقياد، فكل مذعن منقاد فهو مسلم. وأسلم له إذا أذعن وانقاد (٢)، وهو معروف في كلامهم، ومنه قول زيد بن نفيل مؤمن الجاهلية (٣):
وَأَسْلَمتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ لَهُ الأَرْضُ تَحْمِلُ صَخْرًا ثِقَالا
دَحَاهَا فَلَمَّا اسْتَوْتْ شَدَّها جَمِيعًا وَأَرْسَى عَلَيْهَا الجِبَالا
وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي ِلمنْ أسْلَمَتْ لَهُ المُزْنُ تَحْمِلُ عَذْبًا زُلاَلا
إِذَا هِيَ سِيقَتْ إِلَى بَلْدَةٍ أَطَاعَتْ فَصَبَّتْ عَلَيْهَا سجَالا
فقوله: أسلمتُ وجهي لمن أسلمتْ له الأرض، وأسلمتْ له الصخر.
وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لمَنْ أَسْلَمَتْ لَهُ الرِّيحُ تُصْرَفُ حَالاً فَحَالا
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٥) من سورة البقرة.
(٢) انظر: المقاييس في اللغة. كتاب السين، باب السين واللام وما يثلثهما ص٤٨٧.
(٣) مضت هذه الأبيات عند تفسير الآية (٥٧) من سورة الأعراف. ولفظ البيت الثاني في السيرة لابن هشام (١/ ٢٤٧):
﴿هَمَّت طَّآئِفَتَانِ﴾ هذا الهمّ ليس بعزم مصمم؛ لأن الله قال بعده: ﴿وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا﴾ فكان جابر يقول: مع أن الله ذكر أنّا هَمَمْنَا أن نفشل وهذه وصْمَةٌ فِينَا، ولكن والله ما نحب أن الله لم ينزلها لأنه قال بعدها: ﴿وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا﴾ فالتي بعدها تداويها وتزيد، هذا معنى كلامه (رضي الله عنه) (١). فالعزم المصمم من العمل الذي يزينه الشَّيْطَان ويدخل صاحبه بسببه النار.
الرابع: التَّرْك، والتحقيق أن التروك أفعال يزينها الشيطان، ويدخل صاحبها بها النار، ويُثاب بها فيدخل بسببها الجنة. هذا هو التحقيق إن شاء الله. وقد كان ابن السبكي -تاج الدين- في بعض كتبه في علم الأصول في بحث أهل الأصول في الترك هل هو فعل أو ليس بفعل؟ قال: طالعت كتاب الله فوَجَدْتُ من كتاب الله آية في سورة الفرقان يفهم منها أن الترك فِعْلٌ (٢).
ونحن نقول: إن هذه الآية التي أوردها ابن السبكي لا يظهر لنا وجه الدلالة منها كل الظهور، إِلاَّ أَنَّا اطَّلَعْنَا على آيَتَيْنِ من سورة المائدة كلهما صريحة في أن الترك من الأفعال، وأنه مِنَ الأعْمَال التي يؤاخذ بها الإنسان. وإيضاح ذلك: أنك لو تركت الصلاة حتى خرج وقتها، أنت ما فعلت شيئاً إلا أنك تركت الصلاة، فهذا الترك فعل يُقتل صاحبه بسببه، ويدخل به النار، ويكفر به عِنْدَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ. فَلَوْلاَ أَنَّ التَّرْكَ فِعْلٌ لَمَا كان تارك الصلاة كافراً عند من يقول بذلك، ولما وجب قتله كفراً عند أحمد في مشهور مذهبه، وحَدّاً عند مالك والشافعي في مشهوري مَذْهَبِهِمَا، وإيضاح هذا أن ابن السبكي قال:
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٠٨) من سورة الأنعام.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥٤) من سورة الأنعام.


الصفحة التالية
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
دحاها فلما رآها استوت على الماء أرسى عليها الجبالا