يتعذر على البشر ويمتنع وذلك أنه قد علم أن تخير الألفاظ للمعاني المتداولة المألوفة، والأسباب الدائرة بين الناس، أسهل وأقرب من تخير الألفاظ لمعان مبتكرة،
وأسباب مؤسسة مستحدثة. فإذا برع اللفظ في المعنى البارع، كان ألطف وأعجب من أن يوجد اللفظ البارع في المعنى المتداول المتكرّر، والأمر المتقرّر المتصوّر، ثم انضاف إلى ذلك التصرف البديع في الوجوه التي تتضمن تأييد ما يبتدأ تأسيسه، ويراد تحقيقه، بان التفاضل في البراعة والفصاحة، ثم إذا وجدت الألفاظ وفق المعنى، والمعاني وفقها، لا يفضل أحدهما على الآخر، فالبراعة أظهر والفصاحة أتم.
٨ - ومعنى ثامن: وهو أن الكلام يتبين فضله ورجحان فصاحته، بأن تذكر منه الكلمة في تضاعيف كلام، أو تقذف ما بين شعر، فتأخذها الأسماع، وتتشوّف إليها النفوس، ويرى وجه رونقها باديا غامرا سائر ما تقرن به، كالدرّة التي ترى في سلك من خرز، وكالياقوتة في واسطة العقد.
وأنت ترى الكلمة من القرآن يتمثل بها في تضاعيف كلام كثير، وهي غرّة جميعه، وواسطة عقده، والمنادي على نفسه بتميزه وتخصصه، برونقه وجماله، واعتراضه في حسنه ومائه، وهذا الفصل أيضا مما يحتاج فيه إلى تفصيل وشرح ونص، ليتحقق ما ادّعيناه منه.
ولولا هذه الوجوه التي بيناها، لم يتحير فيه أهل الفصاحة، ولكانوا يفزعون إلى التعمل للمقابلة، والتصنع للمعارضة، وكانوا ينظرون في أمرهم، ويراجعون أنفسهم، أو كان يراجع بعضهم بعضا في معارضته ويتوقفون لها.
فلما لم نرهم اشتغلوا بذلك، علم أن أهل المعرفة منهم بالصنعة إنما عدلوا عن هذه الأمور، لعلمهم بعجزهم عنه، وقصور فصاحتهم دونه.
ولا يمتنع أن يلتبس- على من لم يكن بارعا فيهم، ولا متقدّما في الفصاحة منهم- هذا الحال حتى لا يعلم إلا بعد نظر وتأمل، وحتى يعرف حال عجز غيره. إلا أنا رأينا صناديدهم وأعيانهم ووجوههم سلموا ولم


الصفحة التالية
Icon