قرر عليهم عبادة الكفار لهم على جهة الاستهزاء بالكفار، فأجابوا: بأنهم كانوا يعبدون الجن إما لإتباعهم في عبادة الملائكة ووسوسة الشيطان، فكأنهم عبدوا الجن، وإما لكون الملائكة غير راضين بعبادتهم لهم. وقوله (أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١)
إشارة إلى الأتباع والمتبوعين، وهم رؤساؤهم وسوس لهم الشيطان فاتبعوه وآمنوا به واتبعوهم مقلدون لهم، فلم يؤمنوا بالجن قبل ذلك رؤساؤهم في ذلك.
قوله تعالى: ﴿لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا... (٤٢)﴾
الأقسام أربعة: جلب النفع والضر ودفعهما معا، وجلب النفع ودفع الضر وعكسه، والنفي متسلط على الجميع، وهل المراد بالبعض الثاني حقيقة له، فكأنه يقول: لا يملك بعضكم لغيره نفعا، أو المراد به العموم، أي لَا يملك بعضكم لإنسان بالإطلاق، أي لا يملك لنفسه ولا لغيره، وهذا أولى لعمومه، وقدم النفع على الضر لأن جلب النفع مهم، ودفع الضر أهم، وعدم الاتصاف بالمهم لَا يستلزم عدم القدرة على ما هو أهم منه، فجاء هذا على الأصل، لأن الأصل أنه لَا يملك، وعلى تقدير ابن عطية فيقال لهم: يكون معطوفا عليه (بَيِّنَاتٍ) يدل على أن القرآن لَا ينسخ [بالسُّنَّة*]، لأن النسخ بيان، والآية دلت على أنها بينة في أنصبتها.
قوله تعالى: ﴿مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ... (٤٣)﴾
[يرد عليه*] القول بالموجب، وهو أنه كذلك هو في نفس الأمر وهو الذي أراد، لكن وجه احتجاجهم بهذا أنه من الدليل السوفسطائي، وقد ذكر المناطقة أنه لم ترد في القرآن ولا في كلام فصيح، لكن مرادهم أنه لم يرد من كلام الله تعالى، وهذا إنما هو حكاية عن هؤلاء، وتقريره أنهم اعتقدوا أن الخروج عن ملة الآباء قبيح، لَا يحل ولا يجوز، وهذا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قصد صدهم عن ملة آبائهم، فلذلك كفروا به وابتدءوا هم بهذه المقالة من باب إثارة الغضب كقول القائل:
يا ابن الذي طاعته عصمة... وحبُّه مفترض واجب
إن الذي شرفت من أجله... يزعم هذا أنه كاذب
قوله تعالى: (مُفْتَرًى).
إن قلت: ما فائدته، فالجواب: بين وجهين:
الأول: الإفك، قول الباطل عمدا أو سهوا، والافتراء تعمد الكذب.


الصفحة التالية
Icon