قوله تعالى: (فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ).
وقال في سورة هود (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ)، فأعاد المجرور هنا ولم يعده هناك؟ والجواب: أن المؤمنين هنا مخاطبون لقوله تعالى: (فَمِنْكُمْ)، فقصد كمال الفصل، لأنه بينهم وبين الكفار، لأنه من تمام الاعتناء بهم وتعظيمهم وتشريفهم بإفراد حكمهم، وهم هناك غائبون غير مقبل عليهم، فلم يحتج إلى الفصل بل جاء على الأصل؛ لأن حرف العطف ناب مناب تكرار الجار، وذكر البيانيون: الجمع والتفريق، ومثلوه بقوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ) الآية، وهذه الآية منه، وهو تقسيم مستوف إذ لَا ثالث، وقول ابن عطية: إن هذه الجملة في موضع الحال، وهْم لقول ابن مالك في آخر باب الحال: والجملة الحال لَا تقترن بها الفاء، فإن قلت: معلوم أن منهم المؤمن والكافر، فما فائدة الإخبار بهذا؟، قلت: أفاد باعتبار لازمه، أي كما تفقهون بأن خلقكم إنما هو بفعل الله، فكذلك خلق صفاتكم من الكفر والإيمان، ففيه رد على المعتزلة القائلين: بأن العبد يخلق أفعاله، فإن قلت: كيف يفهم هذا من حديث: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ" قلت: ليس المراد الإيمان الأصلي، بل المراد الإيمان التكليفي ضد الكفر.
قوله تعالى: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ... (٣)﴾
نجد اللفظ ورد في القرآن كثيرا مقرونا بقوله (بِالْحَقِّ)، فإن قلت: ما أفاد مع أنه ظاهر في مذهب المعتزلة القائلين: بقاعدة التحسين والتقبيح ومراعاة الأصلح، ووجه الدليل من الآية أن الحق يستحيل أن يراد به أمر راجع إلى إنكار خلق الله تعالى لهما لاستحالة النقص عليه، فلم يبق أن يراد به إلا الأمر المصلح والحسن، وهذا مذهب المعتزلة القائلين: بأن الله لَا يفعل إلا الخير، ولا يخلق الشر بوجه؟ والجواب بأحد وجهين:
إما بأن معناه أنه خلقها مصاحبة لتصديقه لتطابق فعله، وخلقه لها وإخباره تعالى في الأول بأنه سيخلقها بحكمة متقنة، وقال الزمخشري: (بِالحَقِّ)، أي بالغرض الصحيح والحكمة البالغة، وهو اعتزال على مذهبه الفاسد في التحسين والتقبيح، ليسلم من نسبة النقص إلى إضافة النقص إلى الله تعالى ونحن لَا نجعل الباء سبباً على المصاحبة، فإن قلت: قال (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)، فأتى فيه بالفاء على المضمر المفيد للتحقير، ولم يقل هنا (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ)، قلت: لمخالفة الحكماء في خلق الأنفس وفي الطبع والطبيعة دون هذا.