أحدُهما: النَّقْلُ؛ كقولكَ: نسختُ الكتابَ، إذا نقلتَ ما فيهِ، قالَ اللهُ -عزَّ وجَلَّ-: ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الجاثية: ٢٩].
قال ابنُ عباسٍ وغيرُه -رضيَ اللهُ تَعالى عنهم-: إنَّ أعمالَ العِباد تكتبُها الحَفَظَةُ منَ اللَّوحِ المَحْفوظِ قبلَ عَمَلِهِمْ لَها، ثم يقابَلُ بذلكَ ما يَحْدُثُ منْ عملِهم وحركاتِهم في الدُّنيا، فيجدونَ الأمرَ على ما اسْتَنْسَخوا من اللَّوحِ المحفوظِ (١).
والنسخُ الذي نريدُ بيانَه ليسَ منْ هذا المَعْنى؛ خلافًا للنَّحّاسِ؛ حيثُ تَوَهَّمَهُ (٢)، وقدْ غَلَّطوهُ فيه.
المعنى الثَّاني: الإزالَةُ؛ كقولهِم: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ، ونَسَخَتِ الرِّياحُ الآثارَ، وهذا المعنى هو المُرادُ بالنَّسْخِ (٣).
وأَمّا حقيقَتُه، فاعلموا -رَحِمَكُم اللهُ الكَريم وإيَّايَ-: أَنَّ القرآنَ المجيدَ كلامُ اللهِ -جَلَّ جلالُه-، وصِفَةٌ من صفاتِهِ القديمةِ، غيرُ مُحْدَثٍ ولا مَخْلوقٍ، وأَنَّ اللهَ -جَلَّ جلالُهُ- حكيمٌ يحكم لا مُعَقِّبَ لحُكْمِهِ، عليمٌ يعلمُ جميعَ الكائِناتِ قبلَ أنْ تكونَ على ما تكونُ بعدَ أنْ تكونَ، ويعلمُ مُبْتَدَأَها ومُنْتَهاها، وصفَتَها على ما قَدَّرَها بحِكْمَتِهِ، أحاطَ بكُلِّ شَيءِ عِلْماً، وأَحْصى كُلَّ شيءٍ عَدَداً، فهو عالِمٌ بخلقِهِ قبلَ إيجادِهم، وعالمٌ بما يتعبَّدُهُم به، وما يَنْهاهُمْ عنهُ، وما يُقِرُّهم عليهِ من التعبُّدات، وما ينقُلُهم عنه، ويعلمُ مُدَّةَ تعبُّدِهم، وابتداءَ نَقْلِهِم.

= و "شرح مختصر الروضة" للطوفي (٢/ ٢٥٢)، و "نهاية السول" للإسنوي (١/ ٥٨٣)، و "البحر المحيط" للزركشي (٤/ ٦٣)، و "الاستعداد لرتبة الاجتهاد" للمؤلف (٢/ ٧٧٢)، و "إرشاد الفحول" للشوكاني (ص: ١٨٣).
(١) انظر:"الدر المنثور" للسيوطي (٧/ ٤٢٩ - ٤٣٠).
(٢) انظر: "الناسخ والمنسوخ" للنحاس (ص: ٦٠).
(٣) انظر: "اللمع" للشيرازي (ص: ١١٩).


الصفحة التالية
Icon