والأحسنُ عندي أن يقالَ: الآيةُ بخُصوصِها مدنيةٌ -كما قالَ الزَّجَّاجُ-: قيل فيها: إنها نزلَتْ بالمدينةِ، وإن كانتِ السورةُ مكية (١).
فليس ثَمَّ دليل سمعي على تعيينِ نُزولِ هذه الآيةِ بمكَّةَ، وقد يطلقون ذلكَ على جُمْلَةِ السورةِ، وقد عُلِم أن بَعْضَها غيرُ داخلٍ في ذلك الإطلاق، ألا تراهم يقولون: المائدةُ مدنية، وقد نزلَ قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة: ٣] بِعَرَفَةَ؟
فإن قلت: لو أسمعتني دليلاً على ما قلتَ كانَ أوقعَ لقولكَ عندي، وإن كانَ الدليلُ على كون الآيةِ بخُصوصها مكيةً على غيرِك لا عليكَ.
قلت: روى الكلبيُّ عن ابنِ عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما-: أن ثابتَ بنَ قيسٍ عَمَدَ فَصَرَمَ خَمْسَ مِئَةِ نخلةٍ، فَقَسَمها في يومٍ واحدٍ، ولم يتركْ لأهلهِ شيئاً، فكره اللهُ له ذلك، فأنزل: ﴿وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ (٢) (٣) [الأعراف: ٣١].
ونحوُ هذا رُوي عنِ ابنِ جُبير (٤).
وروى ابن جريج عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: أنه جذ نخله فلم يزل يتصدق من ثمره حتى لم يبق منه شيء، فنزلت: ﴿وَلَا تُسْرِفُوا﴾.
(٢) انظر: "تفسير الثوري" (١/ ١١٠)، وابن كثير في "تفسيره" (٢/ ١٨٣)، و"الدر المنثور" للسيوطي (٣/ ٣٦٩).
(٣) انظر: "معالم التنزيل" للبغوي (٢/ ١٣٦)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (٣/ ١٣٦).
(٤) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (٤/ ١٤٥)، وابن أبي حاتم في "التفسير" (٥/ ١٣٩٩).