على فِعْلِهم من التحليلِ والتحريمِ، وبهذه الطريقِ أخذَ أبو عبدِ اللهِ الشافعي -رحمه الله (١) - فهؤلاءِ قومٌ لم يَنْبذوا الكِتاب ولا السنَّةَ وراءَ ظُهورهم، ولم يَنْسَخوا الكتابَ بما هو أضعفُ منه.
فإن قلت: فهذا ابنُ عباسِ -رضي الله تعالى عنهما- البحرُ الحَبْرُ التَّرْجُمانُ يقولُ بتحليل الحُمُرِ الإنسية، قال عَمْرُو بنُ دينارِ: قلت لجابرِ بن زيد: إنهم يزعُمون أن النبي - ﷺ - نَهى عن لُحومِ الحُمُرِ الأهليةِ، قال: قد كانَ يقولُ ذلكَ الحَكَمُ بن عمرِو الغِفاريِّ عندَنا بالبَصْرَة، ولكن أبى ذلك الحَبْرُ، يعني: ابن عباس، وقرأ: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ﴾ [الأنعام: ١٤٥] الآية (٢).
وهذه أيضًا عائشةُ ذهبَتْ إلى تحليلِ الحُمُرِ الأهليةِ (٣)، وقَرَأَتِ الآيةَ كما قرأها ابنُ عباسِ -رضي الله تعالى عنهما (٤).
قلت: إنما لم يحرماها؛ لأنهما تردَّدا في النَهْي هل هو على البَتِّ، أو لِعِلَّةٍ، وقدْ زالت العِلَّةُ (٥)؟ فقد خَرَّجَ مسلم في "صحيحه" عن ابن عباسِ: أنه قال: لا أدري نَهى عنه رسولُ الله - ﷺ - من أجلِ أَنَّه كانَ حَمولةَ الناسِ، فكرهَ أن تذهبَ حَمولَتُهم (٦).

(١) انظر: "اختلاف الحديث" للإمام الشافعي (ص: ٤٥٨).
(٢) رواه البخاري (٥٢٠٩). ورواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (٤/ ٢٠٥).
(٣) في "ب": "الإنسية".
(٤) انظر: "الناسخ والمنسوخ" للنحاس (ص: ٤٣٢)، و "أحكام القرآن" لابن العربي (٢/ ٢٩٣).
(٥) "العلة": ليس في "أ".
(٦) رواه البخاري (٣٩٨٧)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (١٩٣٩)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل لحم الحمر الإنسية.


الصفحة التالية
Icon