قلنا: جازَ إسقاطُ اليقينِ هنا بالشَّكِّ؛ لئلاّ يوقعَ التمادي معهم في الهَلَكَة؛ لبُعْدِ استحكامِ خيانتَهم، فَيَتَّسعَ الخَرْقُ، ويَشُقَّ على المسلمين التدارُكُ، وأما الوَهْمُ المَحْضُ، فلا اعتبارَ به، نَصَّ عليهِ الشافعيُّ في "الأم" (١)، واحتسبَ هذه الأحكامَ مُتَّفَقاً عليها.
ولكني رأيتُ في "جُزْءٍ" وقع عندي في هذا المَوْضِع منسوبٍ إلى ابن العربي: أنه عَقْدٌ جائزٌ ليسَ بلازم. قال: ويجوزُ للإمامَ أن يبعثَ إليهم، فيقول: نبذتُ إليكم عهدَكُمْ، فَخُذوا مِنِّي حِذْرَكُم، وادَّعى الاتفاقَ على ذلكَ (٢).
ودعواهُ الاتفاقَ ممنوعةٌ، بل الاتفاقُ واقعٌ -إن شاءَ الله تعالى- على خلافِه؛ كما هو موافق للكتابِ والسنَّةِ.
فإن كانَ يريدُ أنه عقدٌ جائزٌ عندَ خوفِ الخِيانة، فهو مُتَّفَقٌ عليه كما قال، لكنه قالَ عقبَ هذا الكلام: وهذا عندي إذا كانوا همُ الذينَ طلبوا، فإن طلبَهُ المسلمون لمدَّةٍ، لم يجزْ تركُه فيها بالاتفاق.
ودعواهُ بالاتفاقَ هنا أيضاً ممنوعةٌ، وذكرت هذا لكيلا يغترَّ به.
* هذا في خوفِ الخِيانة، وأما إذا صدرتْ منهمُ الخِيانَةُ، فإن العهدَ يَنْتَقِضُ، لا أعلمُ في ذلكَ خلافاً؛ لقوله تعالى: ﴿وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ﴾ إلى قوله: ﴿أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ﴾ [التوبة: ١٢ - ١٣]، ولهذا قصدَ رسولُ الله - ﷺ - أهلَ مَكَّةَ بالحربِ من غيرِ أن يَنْبِذَ إليهم، ولم يُعْلِمْهم، بل عَمَّى عليهم جِهَةَ غَزْوِهِ.
(٢) انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (٢/ ٤٢٦).