* فإن قلتَ: فقد أمرَ اللهُ سبحانه بقتلِ المشركينَ عندَ انقضاءِ الأشهُرِ الحُرُمِ، فقال: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥]، وهذا عامٌّ فيمن له عهدٌ، ومَنْ لا عَهْدَ له، وسواءٌ صادَفَ انقضاءَ الأربعةِ الأشهرِ، أم لا.
وحَرَّمَ قَتْلَهم في الأشهرِ الحُرُمِ، وهو يَقْتَضي تحريمَ قَتْلِهم، سواءٌ انقضى عَهْدُ المعاهدين وأربعةُ أشهرِ المُمْهَلين، أم لا، فكيف الجَمْعُ بينَ الآيتين؟
قلت: أما تحريمُ قتلهم قبلَ انسلاخ الأشهرِ الحُرُمِ، فلم يقلْ به إلا عَطاءٌ، ومُجاهِدٌ، والحَكَمُ (١)، وهو قَوْلٌ قويُّ الدَّلالَةِ، وقد استوفيتُ بيانَه في "سورة البقرة".
وأما عمومُ الأمرِ بالقتلِ بعد انسلاخِ الأَشْهُرِ الحُرُمِ، فإنه أُريدَ بهِ الخُصوصُ، والتقديرُ: فإذا انسلخَ الأشهرُ الحُرُمُ، فاقتلوا المشركينَ الذين لا عَهْدَ لهم، ولا مُدَّةَ مُقَدَّرَةً من اللهِ سبحانه، حيث وَجَدْتُموهم، ولهذا قالَ ابنُ عَبّاسٍ -رضيَ الله تَعالى عنه- في رواية الوالبي: حَدَّ اللهُ تَعالى للذين عاهَدوا رسولَ الله - ﷺ - أربعةَ أشهرٍ يَسيحون في الأرضِ حيثُ شاؤوا، وأَجَّلَ لِمَنْ ليسَ لهُ عهدٌ عندَ انسلاخِ الأشهرِ الحُرُمِ (٢).
وروي عنه أنه قال: من كان له عهدٌ فوقَ أربعةِ أشهرٍ، حُطَّ إليها، ومَنْ كان دونَها، رُفِعَ إليها، ومَنْ لا عَهْدَ له، جُعِلَ أمانُهُ خمسين يوماً، أولها يومُ النَّحْرِ؛ لقوله تعالى: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ (٣) [التوبة: ٥].

(١) انظر: "تفسير الطبري" (١٠/ ٧٩)، و "أحكام القرآن" للجصاص (٤/ ٣٦٧).
(٢) رواه الطبري في "التفسير" (١٠/ ٦٠)، وابن أبي حاتم في "التفسير" (٦/ ١٧٤٦).
(٣) انظر: "زاد المسير" لابن الجوزي (٣/ ٣٩٤).


الصفحة التالية
Icon