وإن رأى الإمامُ المَصْلَحَةَ في وَضْع الصَّغارِ عن بعضِ أهلِ الكِتابِ على الخُصوص، جازَ؛ كما فعلَ عُمَرُ -رضي الله تعالى عنه- في نَصارى العرب، وهُمْ بَهْراءُ وتنَوخُ وَتغْلِبُ لَمّا امْتَنَعوا من بَذْلِ الجِزْيَةِ، وقالوا: نحنُ قومٌ عربٌ، لا نُؤَدِّي الجِزْيَةَ كما تُؤَدَّي العَجَمُ، ولكنْ خُذْ مِنّا بِاسْمِ الصَّدَقَةِ كما تَأْخُذُ من العربِ، فامتنعَ عمرُ من ذلك، فنفروا من ذلك، ولَحِقَ بعضُهُم بالرُّومِ، فقالَ النُّعْمانُ بنُ زُرْعَةَ، أو زُرْعَةُ بنُ النُّعْمانِ: يا أميرَ المؤمنين! إنَّ فيهم بأسًا وشِدَّةً، وإنهم عَرَبٌ يَأنَفونَ من الجِزْيَةِ، فلا تُعِنْ عَدُوَّكَ عليكَ، فخذ منهمُ الجزيةَ باسمِ الصَّدَقَةِ، فبعث إليهم عُمَرُ، ورَدَّهُمْ، وضاعَفَ عليهمُ الصَّدَقَةَ (١).
* فإن قلتَ (٢): فأهلُ الكِتابِ يُقِرُّونَ بالله واليَوْمِ الآخِرِ، فما وَجْهُ وَصْفِهم بأنَّهم لا يؤمنونَ باللهِ ولا باليومِ الآخِرِ؟
قلنا: قد بيَّنَ اللهُ -جَلَّ جَلالُهُ، وتقدَّسَتْ أسماؤه- وَجْهَ كُفْرِهِمْ بهِ، وعَدَمَ تقديسِهم لهُ، فقالَ حاكيًا عَنْهُمْ: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣٠] ثم قال سبحانه: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون﴾ [التوبة: ٣١]، وقالوا في اليوم الآخر بافترائهم على الله سبحانه: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: ٨٠]، وقالوا: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [البقرة: ١١١] فهم لم يُؤْمِنوا بالله، ولا باليومِ الآخِرِ، ولم يَدينوا دِيْنَ الحَقِّ.
* ولما أمرَ اللهُ سبحانَه وتَعالى بقتالِ أهلِ الكتابِ، وكانَ لا يقاتِلُنا منهم
(٢) إلى هنا ينتهي السقط المشار إليه في نسخة "ب" كما تقدم (ص: ٣٢٥).