وبما رُوي عَنْ عمرَ -رضيَ اللهُ تعالى عنه-: أنَّه قالَ في حديثِ فاطمةَ هذا: لا نَدَع كِتابَ رَبِّنا، وفي بعضِ ألفاظِهِ: وسُنَّةَ نَبيِّنا لِقَوْلِ امرأةٍ جَهِلَتْ أو نَسِيْتَ (١)، ويريدُ بالسُّنَّةِ وجُوبَ النفقةِ حيثُ تَجِبُ السكنى.
وبما رُوي عن عائشةَ -رضيَ اللهُ تعالى عنها-: أنها قالت: ما لِفاطمةَ لا تتَّقي الله؟ يعني: في قولها: لا سُكْنى ولا نفقةَ (٢).
وقال عروةُ بنُ الزُّبير لعائشةَ: ألمْ تَرَيْ إلى فُلانةَ بنتِ الحَكَمِ طَلَّقَها زَوْجُها أَلْبَتَّةَ، فخرجَتْ؟ فقالَتْ: بئْسَما صَنَعَتْ، قال: ألمْ تسمعي قولَ فاطمةَ؟ قالتْ: أَما إِنَّه ليسَ لَها خيرٌ في ذِكْرِ هذا الحديث (٣).
ولما رأى مالِكٌ والشافعيُّ معارَضَةَ الصحابِة -رضيَ اللهُ تَعالى عنهم- لحديثِ فاطمةَ بنتِ قَيْسٍ إِمَّا بالرَّد كَما فعلَ عمرُ، وإمَّا بالتأويل؛ فإنه إنَّما رَخَّصَ لها لاستطالتَها على حَماتها، وبذاءةِ لِسانِها كما قالَ ابنُ عباسٍ، أو أنَّه إنَّما رَخَّصَ لها في الخروج منْ منزلها؛ لأنها كانَتْ في مكانٍ وَحْشٍ، فخيفَ على ناحيتها كما قالَتْ عائشةُ، معَ معارَضَةِ عُمومِ الكتابِ لهُ، وقيامِ الاستدلالِ بأن النبيَّ - ﷺ - لم يَدَعْها تَذْهَبُ حَيْثُ شاءَتْ، وإنَّما نَقَلَها إلى منزلٍ آخرَ لأحدِ الأمرينِ، إما البذاءة، وإما الاستيحاش، فحينئذٍ عَمِلا بِدَلالةِ الكِتابِ نُطْقاً، ومفهومِه، فأوجبا لها السُّكنى؛ لعموم الآيةِ، ولم يوجِبا لها النفقة (٤)؛ لمفهوم قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ٦]، فلم يوجبِ النفقةَ إلَّا للحواملِ، فأفهمَ أن غيرَ

(١) رواه مسلم (١٤٨٠)، كتاب: الطلاق، باب: المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها.
(٢) رواه البُخاريّ (٥٠١٦)، كتاب: الطلاق، باب: قصة فاطمة بنت قيس.
(٣) رواه البُخاريّ (٥٠١٧)، كتاب: الطلاق، باب: قصة فاطمة بنت قيس، ومسلم (١٤٨١)، كتاب: الرضاع، باب: المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها.
(٤) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (٦/ ١٦٤)، و "الحاوي الكبير" للماوردي (١١/ ٢٤٧).


الصفحة التالية
Icon