و"يومٌ وليلةٌ" بدلٌ من: العَصْرَان.
فأقسَمَ -سبحانه- بـ"العَصْر" لمكان العبرة والآية فيه، فإنَّ مرورَ الليل والنَّهار على تقديرٍ قدَّرَهُ العزيزُ العليمُ، منتظِمٍ لمصالح العالم على أكمل ترتيب ونظام، وتعاقبِهما واعتدالِهما تارةً، وأخذِ أحدهما من صاحبه تارةً، واختلافِهما في الضوء، والظلام، والحرِّ، والبرد، وانتشارِ الحيوان وسُكُونِه، وانقسامِ "العَصْر" إلى: القُرُون، والسنين، والأشهر، والأيام، والساعات وما دونها = آيةٌ من آيات الرَّبِّ -تعالى- وبرهانٌ من
براهين قدرته وحكمته.
فأقسَمَ بـ"العَصْر" الذي هو زمانُ أفعال الإنسان ومَحَلُّها على عاقبة تلك الأفعال وجزائها، ونبَّهَ بالمَبْدَأ وهو خَلْقُ الزَّمَان والفاعلين وأفعالهم على المَعَاد، وأنَّ قدرته كما لم تقصر عن المبدأ لم تقصر عن المَعَاد، وأنَّ حكمته التي اقتضت خَلْقَ الزَّمان وخَلْقَ الفاعلين وأفعالهم -وجعلها قسمين: خيرًا وشرًّا- تأْبَى أن يُسَوِّي بينهم، وأن لا يُجَازِي المُحسِنَ بإحسانه، والمسيءَ بإساءته، وأن يجعل النَّوعَين رابحِين أو خاسرين، بل الإنسان من حيث هو إنسانٌ: خاسرٌ، إلا من رحِمه اللهُ، فهَدَاهُ ووفَّقه للإيمان والعمل الصالح في نفسه، وأمَرَ غيرَهُ به. وهذا نظير ردِّه الإنسانَ إلى أسفل سافلين، واستثنائِهِ الذين آمنوا وعملوا الصالحات من هؤلاء المردودين.
وتأمَّلْ حكمة القرآن لمَّا قال: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (٢)﴾ ضيَّقَ الاستثناءَ وخصَّصَهُ، فقال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (٣)﴾. ولمَّا قال: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (٥)﴾ وسَّعَ الاستثناءَ وعمَّمَهُ، فقال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ ولم يقل: