تعلمون حالي، ولا يخفى عليكم سَيري، ومدخلي، ومخرجي، وصِدْقي، وأمانتي. ومِنْ هذا لم أتمكَّنْ من قول شيءٍ منه أَلْبَتَّةَ، ولا كان لي عِلْمٌ به، ولا ببعضه، ثُمَّ أتيتُكُم به وَهْلَةً (١) من غير تَعَمُّلٍ، ولا تعلُّمٍ، ولا معاناةٍ للأسباب التي أتمكَّنُ بها منه، ولا من بعضه. وهذا من أظهر الأدلَّة وأَبْيَن البراهين أنَّه من عند الله، أَوْحَاهُ إلىَّ وأنزله عليَّ. فلو شاء ما فعل، فلم يُمَكِّنِّي من تلاوته، ولا مَكَّنَكُم من العلم به، بل مكَّنَنِي من تلاوته، ومكَّنَكُم من العلم به (٢)، فلم تكونوا عالمين به ولا ببعضه، ولم أَكُن قَبْلَ أن يُوحَى إليَّ تاليًا له، ولا لبعضه.
فتأمَّلْ صحَّةَ هذا الدليل، وحُسْنَ تأليفه، وظهورَ دلالته.
ومن هذا قوله سبحانه: ﴿وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (٨٦)﴾ [الإسراء: ٨٦]، وهذا هو المناسب لقوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ﴾ [الشورى: ٢٤]، ولقوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥)﴾ [الحاقة: ٤٤ - ٤٥]، فهو برهانٌ مستقِلٌّ مذكورٌ في القرآن على وجوهٍ متعدِّدةٍ، والله أعلم.
الثامن: أنَّ مثل هذا التركيب إنَّما جاء في القرآن للنَّفْي لا للإثبات، كقوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ [الإسراء: ٨٦]،

(١) "الوَهْلَةُ": الفَزْعة، والمرَّةُ من الفَزَع. تقول: لقيتُه أوَّل وَهْلَةٍ وَوَهَلَةٍ ووَاهِلَةٍ، أي: أوَّلَ شيء. "لسان العرب" (١٥/ ٤١٦).
والمعنى: أنَّني أتيتكم به فجأةً من غير سابق إعدادٍ وتحضير كأنَّني أفزعتكم به أوَّل ما سمعتموه؛ لأنكم لم تعهدوه منِّي من قبل.
(٢) من قوله:


الصفحة التالية
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
"بل مكَّنني من تلاوته " إلى هنا؛ ملحق بهامش (ح).