ولهذا لمَّا حَصَلَ للجبل أدنى شيءٍ من تَجَلِّي الرَّبِّ تَسَافَى (١) الجَبَلُ، وانْدَكَّ لسُبُحَات ذلك القَدْر من التجلِّي.
وفي الحديث الصحيح المرفوع: "جنّتَان من ذهب؛ آنِيَتُهما، وحِليَتُهما، وما فيهما، وجنَّتَان من فضَّةٍ؛ آنِيَتُهما، وحِليَتُهما، وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظرو إلى ربِّهم إلا رداء الكبرياء على وجهه، في جنَّةِ عَدْنٍ" (٢).
فهذا يدلُّ على أنَّ رداء الكبرياء على وجهه (٣) -تبارك وتعالى- هو المانع من رؤية الذات، ولا يمنِع من أصل الرؤية، فإنَّ الكبرياء والعظمة أمرٌ لازمٌ لذاته تعالى. فإذا تجلَّى -سبحانه وتعالى- لعباده يوم القيامة، وكشف الحجاب بينهم وبينه، فهو الحجاب المخلوق [ز/ ٩١].
وأمَّا نُورُ الذَّات الذي يَحْجُبُ عن إدراكها؛ فذاك صفةٌ للذَّاتِ، لا تفارق ذاتَ الرَّبِّ جلَّ جلاله، ولو كَشَفَ ذلك الحجاب لأحرقت سُبُحَات وجهه ما أدركه بصَرُه من خلقه.
وتكفي هذه الإشارة في هذا المقام للمُصَدِّق المُوقن، وأمَّا

(١) "تَسَافَى" أي: صار ترابًا، والسَّفَى: التراب.
انظر: "لسان العرب" (٦/ ٢٩٠).
و"تَسَافَى" كذا ضبطت في (ح) و (ن)، وربما كانت تحريف "سَاخَ"، فإن ابن القيم استعملها في مثل هذا السياق في "الصواعق المرسلة" (٣/ ١٠٦٤)، و"مدارج السالكين" (٢/ ٣٧٨)، و"إغاثة اللهفان" (٢/ ٢٩٦).
(٢) أخرجه: البخاري في "صحيحه" رقم (٤٨٧٨ - ٤٨٨٠، ٧٤٤٤)، ومسلم في "صحيحه" رقم (١٨٠)؛ من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-.
(٣) من قوله: "في جنة عَدْنٍ... " إلى هنا؛ ملحق بهامش (ن).


الصفحة التالية
Icon