انصرفت قُواه ونَهْمَتُه كلُّها إلى الغذاء الحيوانيِّ البهيمي، لمَّا فَقَدَ الغذاءَ الروحى القلبيَّ، فتوفرت أمعاؤه وقُواه على هذا الغذاء، واستفْرَغَتْ أمعاؤه هذا (١) الغذاء وامتلأت به بحسب استعدادها وقبولها، كما امتلأت به " العُرُوق" و"المعدة".
وأمَّا المؤمن فإنَّه إنَّما يأكل العُلْقَة (٢) ليتقوَّى بها على ما أُمِرَ به، فهِمَّتُه وقُوَاه مصروفةٌ إلى أُمورٍ (٣) وراء الأكل. فإذا أخَذَ ما يُغَذيه ويقيمُ صُلْبَه استغنى قلبُه ونفسُه وروحُه بالغذاء الإيماني عن الاستكثار من الغذاء الحيوانيِّ، فاشتغل مِعَاهُ الواحد -وهو "قُولُون"- بالغذاء، فأمسكه حتَّى أخذت منه الأعضاءُ والقُوى مقدارَ الحاجة، فلم يحتج إلى امْتِلاَءِ (٤) أمعائه كلِّها من الطعام، وهذا أمرٌ معلومٌ بالتجربة.
وإذا قويت موادُّ الإيمان، ومعرفةِ الله وأسمائه وصفاته، ومحبتِه، ورجائه، والشوقِ إلى لقائه في "القلب" = استغنى بها العبدُ عن كثيرٍ من الغذاء، ووجد لها قوَّة تزيد على قوَّة الغذاء الحيوانيِّ.
فإن كَثُفت طِبَاعُك عن هذا، وكنتَ عنه بمعزلٍ؛ لاشتغالك بالغذاء الحيوانيِّ وامتلائك به (٥)، فتأمَّلْ حال الفَرِح المسرور بتجدُّدِ نعمةٍ عظيمةٍ، واستغنائه مدَّة عن الطعام والشراب مع وفور قوَّته، وظهور

(١) في (ز) و (ك) و (ط): على هذا.
(٢) "العُلْقَة": كل ما يُتَبلَّغُ به من العيش. "القاموس" (١١٧٦).
(٣) في (ز) و (ك) و (ط): أمرٍ.
(٤) في (ح) و (م): أن يملأ.
(٥) من قوله: "لاشتغالك بالغذاء... " إلى هنا؛ ساقط من (ح) و (م).


الصفحة التالية
Icon