وأقام عليه من الأدلَّة العِيَانيَّةِ والبُرْهَانيَّة ما جعله [ز/ ١٥١] مُعَايَنًا مُشَاهَدًا بالبصائر، وإن لم يُعَايَنْ بالأبصار = ومع ذلك فأكثر النُّفوس في غفلةٍ عنه لا تستعِدُّ له، ولا تأخذ له أُهْبَتَهُ.
والمستعِدُّ له، الآخذُ له أُهْبَتَهُ، لا يعطيه حقَّه منهم إلا الفَرْد بعد الفَرْد، فأكثر هذا الخلق لا ينظرون في المراد من إيجادهم وإخراجهم إلى هذه الدار، ولا يتفكرون في قِلَّةِ مَقَامِهم في دار الغرور، ولا في رحيلهم وانتقالهم عنها، ولا إلى أين يرحلون؟ وأين يستقرُّون؟ قد مَلَكَهُم الحِسُّ، وقلَّ نصيبُهم من العقل، وشملتهم الغفلة، وغرَّتهم الأمانيُّ التي هي كالسَّرَاب، وخَدَعَهم طُولُ الأمل، فكأنَّ المقيمَ لا يَرْحَل، وكأنَّ أحدَهم لا يُبْعَث ولا يُسْأل، وكأنَّ مع كل مقيمٍ توقيعٌ من الله لفلانِ ابن فلانٍ بالأَمَانِ من عذابه، والفوزِ بجزيل ثوابه.
فأمَّا هِمَّتُهُم (١) ففي اللذَّات الحِسِّية، والشهوات النفسيَّة، كيفَمَا حصلت حَصَّلُوها، ومن أيِّ وجهٍ لاَحَتْ أخذوها، غافلين عن المطالبة، آمنين من المُعَاقبة (٢). يَسْعَون لما لا يُدْرِكُون، ويتركون ما هم به مُطَالَبون، ويَعْمُرُون ما هم عنه منتقلون، ويُخرِّبون ما هم إليه صائرون، ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (٧)﴾ [الروم: ٧]. ألسنتُهم لا تنطق (٣) إلا بشهواتِ نفوسهم، فلا ينظرون في مصالحها (٤)، ولا يأخذون في جمع زادها في سفرها: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ

(١) ساقط من (ح) و (م).
(٢) في (ك) و (ح) و (م): العاقبة.
(٣) "لا تنطق" ملحق بهامش (ن)، وهي مع "إلا" ساقط من (ح) و (م).
(٤) في (ك): مصالحهم.


الصفحة التالية
Icon