ابن عاشور قد تابع جمهور المفسرين في ترجيح ذلك القول مستندا في ذلك إلى القاعدة.
وأما أصحاب القول الأول الذين يرون أن الحياة تحصل ثلاث مرات أحدهما في الدنيا والثانية في القبر والثالثة عند البعث، والموت؛ مرة عند انقضاء الأجل وأخرى بعد المساءلة في القبر فقد ردّ قولهم عدد من العلماء منهم الطبري، والرازي، والزمخشري، وأبو حيان، حيث ساق الطبري بعض الأدلة التي تدل بالمنقول والمعقول على عدم حصول الحياة في القبر وذكر بأنه لا إنابة في القبور بعد الممات (١).
كما استبعده الرازي في تفسيره مبيناً أن الآية تدل على المنع من حصول حياة القبر، وبيّن أنه لو كان الأمر كذلك لكان قد حصلت الحياة ثلاث مرات أولها: في الدنيا، وثانيها في القبر، وثالثها في: القيامة، والمذكور في الآية ليس إلا حياتين فقط، فتكون إحداهما في الحياة الدنيا والحياة الثانية في القيامة، والموت الحاصل بينهما هو الموت المشاهد في الدنيا (٢). كما ردّه الزمخشري، وأبو حيان، وبيّنا بطلانه، وذكرا أنه خلاف القرآن (٣) (٤).
_________
(١) انظر جامع البيان / الطبري، ج ١، ص ٢١٦.
(٢) التفسير الكبير / الرازي، ج ٩، ص ٤٩٥.
(٣) انظر الكشاف / الزمخشري؛ تحقيق: عادل عبد الموجود، علي معوض، ج ٥، ص ٣٣٤، والبحر المحيط / أبو حيان، ج ٧، ص ٤٣٥.
(٤) قلت: وإنكار أئمة المفسرين لهذا القول لا يعني إنكارهم لعذاب القبر، وإنما وقع إنكارهم على أن تكون الحياة في القبر مثل الحياة في الدنيا، ولا شك أن الحياة في القبر أمر عارض وغير مستقر، يشبه حال النائم.
وقد أنكر ابن القيم على من نفى حياة القبر فقال: " فهذا فيه إجمال أن أراد به الحياة المعهودة في الدنيا التي تقوم فيها الروح بالبدن وتدبره وتصرفه وتحتاج معها إلى الطعام والشراب واللباس فهذا= =خطأ كما قال والحس والعقل يكذبه كما يكذبه النص، وإن أراد به حياة أخرى غير هذه الحياة بل تعاد إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا ليسأل ويمتحن في قبره فهذا حق ونفيه خطأ وقد دل عليه النص الصحيح الصريح وهو قوله فتعاد روحه في جسده". (الروح / ابن القيم، ج ١، ص ٤٣).
وقد سئل شيخ الإسلام عن سؤال منكر ونكير الميت إذا مات تدخل الروح فى جسده ويجلس ويجاوب منكرا ونكير فيحتاج موتا ثانيا؟
فأجاب: عود الروح إلى بدن الميت فى القبر ليس مثل عودها إليه في هذه الحياة الدنيا وإن كان ذاك قد يكون أكمل من بعض الوجوه، كما أن النشأة الأخرى ليست مثل هذه النشأة وان كانت أكمل منها، بل كل موطن في هذه الدار وفى البرزخ والقيامة له حكم يخصه، ولهذا أخبر النبي - ﷺ - أن الميت يوسع له في قبره ويسأل ونحو ذلك وان كان التراب قد لا يتغير فالأرواح تعاد إلى بدن الميت وتفارقه. (مجموع الفتاوى، ج ٤، ص ٢٧٤).
وقال أبو محمد: وهذا حق لا يدفع عذاب القبر لأن فتنة القبر وعذابه والمساءلة إنما هي للروح فقط بعد فراقه للجسد إثر ذلك قبر أو لم يقبر برهان ذلك قول الله تعالى " ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم " الآية وهذا قبل القيامة بلا شك وأثر الموت وهذا هو عذاب القبر وقال " إنما توفون أجوركم يوم القيامة " وقال تعالى في آل فرعون " النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب " (الفصل في الملل والأهواء والنحل / محمد بن حزم، ج ١، ص ٤٣٨).
وقال ابن عاشور: " وقد أورد كثير من المفسرين إشكال أن هنالك حياةً ثالثة لم تذكر هنا وهي الحياةُ في القبر التي أشار إليها حديث سؤال القَبر وهو حديث اشتهر بين المسلمين من عهد السلف، وفي كون سؤال القبر يقتضي حياة الجسم حياة كاملة احتمال، وقد يُتأول بسؤال روح الميت عِند جسده أو بحصول حياة بعض الجسد أو لأنها لما كانت حياة مؤقتة بمقدار السؤال ليس للمتصف بها تصرف الإِحياء في هذا العالم، لم يعتد بها لاسيما والكلام مراد منه التوطئة لسؤال خروجهم من جهنم، وبهذا يعلم أن الآية بمعزل عن أن يستدل بها لثبوت الحياة عند السؤال في القبر" (التحرير والتنوير، ج ١١، ص ٩٨).


الصفحة التالية
Icon