والمستمتعين بها إذا تكنفوها قياما وقعودا كانوا مشرفين عليها. ومنه قول الأعشى:
وبات على النّار النّدى والمحلّق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (تكنفوها)، الجوهري: تكنفوه واكتنفوه، أي: أحاطوا به، والتكنيف مثله.
قوله: (وبات على النار) البيت، أوله

لعمري لقد لات عيونٌ كثيرةٌ إلى ضوء نار في يفاع تحرق
تشب لمقرورين يصطليانها وبات على النار الندى والمحلق
ريعي لبانٍ ثدي أم تقاسما بأسحم داجٍ عوضُ لا نتفرقُ
قال الحريري في "درة الغواص" بعد إنشاد البيتين الأخيرين: يعني أن المحلق الممدوح والندى ارتضعا ثدي أم وتحالفا على أنهما لا يفترقان أبداً؛ لأن عوض: من أسماء الدهر، هي مما بُني على الضم والفتح، وهو للمستقبل، كما أن قط للماضي، وعني بالأسحم الداجي: ظُلمة الرحم المشار إليها في قوله تعالى: (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ) [الزمر: ٦]، وقيل: بل عُني به الليلُ. ومعنى "تقاسما" على التقديرين: تحالفا. وقيل: تقاسما: اقتسما، وأن المراد بالأسحم الداجي: الدمُ.
و"اليفاعُ": المكان المرتفع، وهو أشهر النار للقاصدين. "تُشبُّ": توقد، و"المقرور": من أصابه القُر، أي: البردُ، و"المحلقُ" بكسر اللام وفتحها: اسم رجلٍ من بني عُكاظ، كان خاملاً فقيراً له عدةُ بناتٍ لا يرغبُ فيهن فانعزل عن قومه إلى بعض المهامه، فنزل به الأعشى ذات ليلةٍ، فأحسن قراه، ونحر ناقته ولم يكن عنده غيرها، فوقع صنعه من الأعشى موقعاً جليلاً، فلما أراد الانصراف قال: ألك حاجةٌ؟ قال: أريد أن تسير بذكري في بني عُكاظ؛ لعلي أشتهر ويرغب في بناتي، فقد مسهن الضر، فتوجه الأعشى على قومه ومدحه بقصيدة ذكر فيها محاسن شيمته ومكارم أخلاقه واستمال به قلوبهم إلى مواصلته، فمل يمض قليلٌ حتى خُطب إليه جميعُ بناته.


الصفحة التالية
Icon