قُلت: العبارة لنهي من لا يؤمن عن صدّ موسى، والمقصود نهى موسى عن التكذيب بالبعث أو أمره بالتصديق فكيف صلحت هذه العبارة لأداء هذا المقصود؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: أن صد الكافر عن التصديق بها سبب للتكذيب. فذكر السببُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بالٍ منهم وتوكيل همهم وأفكارهم به، كما قال: (لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) [النور: ٣٧]، يدل عليه سياق الكلام، وينطبق عليه تأويل نبي الله صلوات الله عليه: "من نسي صلاة فليقضها إذا ذكرها"، يعني: دوموا على إقام الصلاة، فإذا طرأ النسيانُ الذي هو خلافُ العادة فارجعوا إلى ما كنتم عليه؛ لأن الشرط: تعليقٌ للحادث الطارئ.
قوله: (العبارة)، يعني: قوله: (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا)، وهو لنهي الكافر الغائب، والمقصود نهي موسى عليه السلام عن التكذيب بالبعث، تهييجاً أو أمرةً بالمداومة على التصديق له.
قوله: (فيه وجهان)، أي: في صلاح هذه العبارة لأداء هذا المقصود طريقان، أحدهما: أن الكافرين إذا صدوه عليه السلام عن تصديقه البعث، وأثر فيه ذلك، كان سبباً بأن يُكذب بالبعث، فنهاهم عن الصد الذي هوا لسبب، وأريد المسبب وهو نهي موسى عن التكذيب تهييجاً وإلهاباً. وثانيهما: أن الكافر إنما يُنهي عن الصد إذا وجد في موسى ما يتأثر عن صد الكافر من الرخاوة واللين. فيكون تأثره سبباً للنهي، فذكر المسبب وهو النهي، ليدل على المسبب وهو الرخاوة واللين، فيرجع المعنى إلى قوله: كن شديد الشكيمة صليب المعجم، وفي اعتبار العكس إيذانا بأن الملازمة بين المذكور والمطلوب مساوية، وهذا شأن الكناية، ويجوز أن يكون الأول مجازاً والثاني كناية. قال صاحب "المفتاح": الانتقال من اللازم إلى ملزوم مُعين يعتمدُ مساواته إياها، لكنهما عند التساوي يكونان متلازمين، فيصير الانتقال من اللازم إلى الملزوم إذ ذاك بمنزلة الانتقال من الملزوم إلى اللازم، وفي قوله: "عن رخاوة الرجل" أدبٌ حسنٌ، حيث كنى به عن نبي الله.


الصفحة التالية
Icon