ليدل على المسبب. والثاني أن صد الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين ولين شكيمته، فذكر المسبب ليدل على السبب، كقولهم: لا أرينك هاهنا، المراد نهيه عن مشاهدته والكون بحضرته، وذلك سبب رؤيته إياه. فكان ذكر المسبب دليلا على السبب، كأنه قيل: فكن شديد الشكيمة صليب المعجم، حتى لا يتلوح منك لمن يكفر بالبعث أنه يطمع في صدك عما أنت عليه، يعنى: أن من لا يؤمن بالآخرة هم الجم الغفير إذ لا شيء أطم على الكفرة ولا هم أشد له نكيرا من البعث، فلا يهولنك وفور دهمائهم ولا عظم سوادهم، ولا تجعل الكثرة مزلة قدمك، واعلم أنهم وإنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (الشكيمة)، الأساس: إن فلاناً لشديد الشكيمة: إذا كان ذا جد وصرامة.
قوله: (صليب المعجم)، الجوهري: عجمت العود أعجمه بالضم: إذا عضضته لتعلم صلابته من خوره، والعواجم: الأسنان، ورجلٌ صليبُ المعجم: إذا كان عزيز النفس.
قوله: (يعني: أن من لا يؤمن بالآخرة)، شروعٌ في بيان كون موسى عليه السلام على الوصف الذي يُراد نهيه عنه، فجعل نهي الكافر وسيلةً إلى ذلك النهي، وهو كونه في رخاوة وعدم تصلب في الدين، بحيث يهوله وفور دهماء الكفرة، ولذلك لخص المعنى بقوله: "ولا تجعل الكثرة مزلة قدمك" إلى آخره، وقلتُ- والله أعلم: ويمكن أن يحمل (مَنْ لا يُؤْمِنُ) على المُعرض عن عبادة الله المتهالك في الدنيا المنغمس في لذاتها وشهواتها، بدليل قوله: (وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى)، ويُحمل نهي الصد عن نهي النظر إلى متمتعاتهم من زهرة الحياة الدنيا ليكون على وزان قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ * لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ) [الحجر: ٨٧ - ٨٨]، كما سبق، وتُحمل متابعةُ الهوى على الميل إلى الإخلاد إلى الأرض، كقوله تعالى: (وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) [الأعراف: ١٧٦] يعني: تفرغ لعبادتي ولا تلتفت إلى ما هم فيه، فإنها مُرديةٌ مؤديةٌ إلى المهالك، فإن ما أوليناك واخترناه لك هو المقصد الأسني، فإن شئت فانظر إلى أحقر ما معك، وهو العصا، فإنها تبطل ما معهم، وفي هذا حث عظيم على الاشتغال بالعبادة وزجرٌ بليغٌ عن الركون إلى الدنيا ونعيمها.


الصفحة التالية
Icon