إلا ذو جأش رابط وصدر فسيح، فاستوهب ربه أن يشرح صدره ويفسح قلبه، ويجعله حليما حمولا يستقبل ما عسى يرد عليه من الشدائد التي يذهب معها صبر الصابر بجميل الصبر وحسن الثبات، وأن يسهل عليه في الجملة أمره الذي هو خلافة الله في أرضه وما يصحبها من مزاولة معاظم الشؤون ومقاساة جلائل الخطوب. فإن قلت: (لِي) في قوله (اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) ما جدواه «٢» والكلام بدونه مستتب؟ قلت: قد أبهم الكلام أولا فقيل: اشرح لي ويسر لي، فعلم أن ثم مشروحا وميسرا، ثم بين ورفع الإبهام بذكرهما، فكان آكد لطلب الشرح والتيسير لصدره وأمره، من أن يقول: اشرح صدري ويسر أمري على الإيضاح الساذج، لأنه تكرير للمعنى الواحد من طريقى الإجمال والتفصيل. عن ابن عباس: كان في لسانه رتة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لي عن صدري حتى لا أشاهد غيرك؛ ويسر لي أمري حتى لا أنظر إلا بمعرفتك، واحلل عقدة من لساني حتى لا أتكلم إلا بما أبلغه عنك. وقال جعفر: قيل لموسى: استكثرت تسبيح ونسيت بدايات فضلنا عليك في اليم وردك إلى أمك وتربيتك في حجر عدوك، وأكبر من هذا كله خطابنا معك وكلامنا إياك، وأكبر منه إخبارنا باصطناعنا لك.
قوله: (ذو جأش رابط)، الأساس: والجأش والجؤشوش: الصدرُ، يقال: فلانٌ قد ربط لذلك الأمر جأشاً. ويقال لمن يربط نفسه عن الفرار لشجاعته: رابط الجأش.
قوله: (يستقبل ما عسى يردُ عليه)، استعمل "عسى" بغير "أنْ" تشبيهاً لها بـ "كاد" كما في قوله:

عسى الكربُ الذي أمسيتُ فيه يكون وراءه فرجٌ قريب
قوله: (مستتب)، أي: مستقيم، الأساس: استتب الطريق: ذل وانقاد كما يقال: طريق معبدٌ، واستتب له الأمر.
قوله: (بذكرهما)، أي: بذكر المشروح والميسر.


الصفحة التالية
Icon