كل شيء خلقه الله لم يخله من عطائه وإنعامه (ثُمَّ هَدى) أى عرّف كيف يرتفق بما أعطى، وكيف يتوصل إليه. ولله درّ هذا الجواب ما أخصره وما أجمعه، وما أبينه لمن ألقى الذهن ونظر بعين الإنصاف وكان طالبا للحق.
(قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) [طه: ٥١ - ٥٤].
سأله عن حال من تقدم وخلا من القرون، وعن شقاء من شقى منهم وسعادة من سعد، فأجابه بأنّ هذا سؤال عن الغيب، وقد استأثر الله به لا يعلمه إلا هو، وما أنا إلا عبد مثلك لا أعلم منه إلا ما أخبرنى به علام الغيوب، وعلم أحوال القرون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (كل شيء خلقه الله لم يخله من عطائه)، يؤذن أن ثاني مفعولي (أَعْطَى) محذوفٌ، إما للعموم أو الإطلاق، قال أبو البقاء: المفعول الثاني محذوفٌ للعلم به، أي: أعطى كل شيء ما يُصلحه.
قوله: (ولله در هذا الجواب ما أخره وما أجمعه، وما أبينه لمن ألقى الذهن)، يعني: وكان من حق الظاهر أن يقولا: رب العالمين، لكن سلكا طريق الإرشاد والأسلوب الحكيم.
قوله: (وعن شقاء من شقي منهم وسعادة من سعد)، يُريدُ به على سبيل التفصيل والتشخيص، يدل عليه الفاء في قوله: (فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى)؛ لأنه طلبُ تفصيل ما سبق من قوله: (وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى)، وقوله: (أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى)، ومن ثم حسُنَ جوابه عليه السلام بقوله: (عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي)، وتعليله بقوله: (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى)، قال الإمام: إن موسى عليه السلام لما هدد في قوله: (أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى)، فقال فرعون: (فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى) فإنها كذبت ثُم ما عُذبوا.