(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء: ١٩ - ٢٠].
(وَمَنْ عِنْدَهُ) هم الملائكة. والمراد أنهم مكرمون، منزلون - لكرامتهم عليه - منزلة المقرّبين عند الملوك على طريق التمثيل والبيان لشرفهم وفضلهم على جميع خلقه.
فإن قلت: الاستحسار مبالغة في الحسور، فكان الأبلغ في وصفهم أن ينفي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (والبيان لشرفهم وفضلهم على جميع خلقه) يعني: اختصاصُ لفظ "عند" مع عطفِ الخاص على العام دليلٌ على ذلك، قال الإمام: إنه تعالى لما حكى كلام الطاعنين في النبوات وأجاب عنها، وبين أن غرضهم من تلك المطاعن التمرد وعدم الانقياد، بيَّنَ في هذه الآية أنه تعالى منزهٌ عن طاعتهم؛ لأنه المالك لجميع المخلوقات؛ ولأن الملائكة مع جلالتهم مطيعون خائفون منه، فالبشر مع نهاية الضعف أولى أن يطيعوه.
وقلتُ: عنى أن الكلام في أقوام مخصوصين معاندين، وهو حق كما سبق، ومجرد لفظ "عند" لا يدل على المطلوب. وقد جاء (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر: ٥٤ - ٥٥]، (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنْ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ) [ص: ٤٧]، وغير ذلك، وغاية معنى الترقي والتدرج في الضعف والقوة الدلالة على أنهم لا يفترون في العبادة، وأن أحداً من البشر لا يدرك شأوهم في هذا المعنى، وهذا مما لا نزاع فيه، وإنما النزاع في أمر آخر.
قوله: (الاستحسارُ مبالغةٌ في الحسور)، وذلك أن السين فيه: طلب الحسور، ولا طلب هنا، فدل على المبالغة، فنفيُ الأبلغ لا يفيد نفي الأدونِ فيفيد إثبات التعب مطلقاً، والحالُ أنهم لا يتعبون رأساً، وأجاب أن في بناء المبالغة الإشعار بأن ما هم فيه من الطاعات في غاية من الثقل والتعب وإن كانوا لا يتعبون، نحوه قوله تعالى: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)