كرّر (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) استفظاعا لشأنهم واستعظاما لكفرهم، أى: وصفتم الله تعالى بأنّ له شريكا، فهاتوا برهانكم على ذلك: إمّا من جهة العقل، وإمّا من جهة الوحى، فإنكم لا تجدون كتابا من كتب الأوّلين إلا وتوحيد الله وتنزيهه عن الأنداد مدعوّ إليه، والإشراك به منهى عنه متوعد عليه.
أى (هَذَا) الوحى الوارد في معنى توحيد الله ونفى الشركاء عنه، كما ورد علىّ فقد ورد على جميع الأنبياء، فهو ذكر: أى عظة للذين معى: يعنى أمّته، وذكر للذين من قبلي: يريد أمم الأنبياء عليهم السلام. وقرئ "ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي" بالتنوين. و"من" مفعول منصوب بالذكر كقوله (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً) [البلد: ١٤ - ١٥] وهو الأصل، والإضافة من إضافة المصدر إلى المفعول كقوله: (غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) [الروم: ٣].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (كرر (أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً)، أي: قال: "أم اتخذوا آلهةً من الأرض هم ينشرون" ثم عاد إلى هذا القول استفظاعاً لشأنهم، يعني: خلقنا السماء والأرض لداعي المعرفة والعبادة، ثم الجزاء، وهم اتخذوا آلهةً ليس من شأنها ذلك، بل اتخذوا من لم يُنزل فيه سلطاناً، فانظروا إلى هذا الأمر الفظيع.
وقلتُ: وليكون وسيلةً إلى الرجوع إلى ما سبق الكلام له، وهو قوله تعالى: (هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِي وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي)، ثم قوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ) الآية، ثم في مجيء هذا، والإضراب بقوله: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ) إلى آخر الآية تتميمٌ لذلك الاستفظاع ومبالغةٌ فيه، فقوله: (هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِي وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) نفيُ البرهان من جهة الوحي، وقوله: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ) نفيُ البرهان من جهة العقل، وقوله: (فَهُمْ مُعْرِضُونَ) مسببٌ لفقدان دليل العقل، وإليه الإشارة بقوله: "فمن ثم جاء هذا الإعراضُ".
قوله: (متوعدٌ عليه فيه) الضمير في "فيه" راجعٌ إلى قوله: "كتابا"، وقوله: "مدعو "ومنهيٌّ" و"متوعد"، قد تنازعت في الظرف.


الصفحة التالية
Icon