فإن قلت: ما الفرق بينهما من جهة المعنى؟ قلت: أحدهما: الإعلام بأنه جعل فيها طرقا واسعة.
والثاني: بأنه حين خلقها خلقها على تلك الصفة، فهو بيان لما أبهم ثمة، محفوظا حفظه بالإمساك بقدرته من أن يقع على الأرض ويتزلزل، أو بالشهب عن تسمع الشياطين على سكانه من الملائكة.
(عَنْ آياتِها) أى عما وضع الله فيها من الأدلة والعبر بالشمس «٢» والقمر وسائر النيرات، ومسايرها وطلوعها وغروبها، على الحساب القويم والترتيب العجيب، الدال على الحكمة البالغة والقدرة الباهرة، وأىّ جهل أعظم من جهل من أعرض
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ما الفرقُ بينهما من جهة المعنى؟ )، أي: بين قوله: (سُبُلاً فِجَاجاً) [نوح: ٢٠] وبين قوله: (فِجَاجاً سُبُلاً)، وخلاصةُ الجواب: أن (سُبُلاً فِجَاجاً): دل على أنه تعالى جعل فيها طرقاً واسعة، ولكن لم يعلم كيفية خلقها، أي: أنها خُلقت ابتداءً كذلك أم غُيرت من حالة إلى حالة، فبين بقوله: (فِجَاجاً سُبُلاً) أنها كانت فجاجاً غير نافذةٍ مانعة لقاصديها من السلوك، ثم جعلت نافذةً مسلكةً امتناناً، كقوله تعالى: (أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا)، وهو المراد من قوله: "فهو بيانٌ لما أبهم ثمةَ"، أي: في تلك الآية.
وقال محيي السُّنة: الفج: الطريق الواسع بين جبلين، و (سُبُلاً): تفسيرٌ للفجاج. معناه ما قال صاحب "المطلع": (سُبُلاً): تفسيرٌ للفجاج، وبيانُ أن تلك الفجاج نافذةٌ مسلوكةٌ، فقد يكون الفج غير نافذ. وقال الزجاجُ: كل مخترق بين جبلين فهو فج. فإن قلت: لم قُدم هاهنا، وأخر هناك؟ قلتُ: تلك الآية واردةٌ لبيان الامتنان على سبيل الإجمال، وهذه لبيان الاعتبار، والبعث على إمعان النظر فيه، وذلك يقتضي التفصيل، ومن ثم عقب قوله: (كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا) بهذه، وهذا يُقوي ما ذهبنا إليه في إيثار "الفتقِ" و"الرتْقِ" على "الإبداع" لاقتضاء المقام التفصيل.