فإن قلت: لم قيل أوّلا: "ترون"، ثم قيل: (وترى)، على الإفراد؟ قلت: لأنّ الرؤية أوّلا علقت بالزلزلة فجعل الناس جميعا رائين لها، وهي معلقة أخيرا بكون الناس على حال السكر، فلا بد أن يجعل كل واحد منهم رائيا لسائرهم.
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) [الحج: ٣ - ٤].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مؤذنٌ أن قوله تعالى: (وَمَا هُمْ بِسُكَارَى) بيانٌ لإرادة معنى السُّكْرِ من قوله تعالى: (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى) فإنه إما أن يُراد منه التشبيهُ، كما نقولُ: وترى الناس كالسُّكارى شُبهوا بسُكارى بسبب ما غشيهم من الخوف فبقُوا مسلوبي العقول كالسَّكران، أو أن يُراد الاستعارةُ، كأنه قيل: ترى الناس خائفين، فوضع موضعه سُكارى؛ ولهذا بينه بقوله: "منَ الخَوْف"، وصرح "وما هم بسكارى من الشراب".
الانتصاف: ومن علامات المجاز: صحةُ سلبِه، كما إذا قلت للبليد: حمار! يصحُّ نفيُه، وكذا هاهُنا، نفي السُّكَر الحقيقي بقوله: (وَمَا هُمْ بِسُكَارَى) مؤكداً بالباء؛ لأن هذا السُّكر أمرٌ لم يُعهد مثله؛ ولكن الاستدراك بقوله: (وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) تعليلٌ لإثبات السكر المجازي لما نفى عنهم السكر.
قوله: (لأن الرؤية عُلقت أولاً بالزلزلة)، تلخيص الجواب: أن المرئي على الأول: حالةُ الزلزلة، والجمعُ كلهمُ يشاهدونها. وفي الثاني: المرئي: حالةُ تحيُّرِ الناس، فكل واحدٍ لا يشاهد حالة نفسه، بل يشاهد سائر الناس دون نفسه، ولهذا أتى بلفظ السائر؛ لأنه من السؤر، وهو البقية، أو يكون عاماً قصداً إلى تفظيع حال الناس، وأن تلك بلغت من الظهور حتى يمتنع خفاؤها البتة، فلا يختصُّ برؤية راءٍ دون راءِ. قال صاحبُ "الفرائد": يمكنُ أن يكون (َتَرَى) خطاباً للنبي صلى الله عليه سلم، أو يمكنُ أن يُراد بها المخاطبُ، وإنما المرادُ من الأول التهديدُ بالوقوع، ومن الثاني التعجبُ من حالهم.