ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وكُلفَ تلك التكاليف التي ذُكرت في الآيات السابقة، ومن ثم عقبها بها وبينها برزخ الموت ولابد من قطعه للوصول إليه، وكان ذلك التوكيد راجعاً إلى هذا المعنى، ومن ثم كرر (إِنَّكُمْ) ونقل من الغيبة إلى الخطاب، يعني: أن ماهيتك وحقيقتك أيها المخلوق العجيبُ الشأن، تفنى وتُعدمُ، ثم إنها بعينها من الأجزاء المتفرقة، والعظام البالية، والجلود الممزقة المتلاشية في أقطار الشرق والغرب، تبعث وتنشر ليوم الجزاء؛ لإثابة المحسن وعقاب المسيء، فالقرينة الثانية لم تحتج إلى التوكيد افتقار الأولى؛ لأنها كالمقدمة لها وتوكيدها راجعٌ إليها، وقالوا: إنما بولغ في القرينة الأولى لتمادي المخاطبين في الغفلة، فكأنهم نُزلوا منزلة المنكرين لذلك، وأخلى الثانية لوضوح أدلتها وسطوع براهينها.
وقلتُ: هذا كلامٌ حسنٌ لو ساعد عليه النظم الفائق وتكرير حرف التراخي المؤذن بتفاوت المراتب والأطوار من لدن قوله: (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ) إلى قوله: (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ). وأما دلالةُ معنى التوكيد الذي يعطيه "إن" في القرينتين، فكدلالته في قول المؤمن الموحد: (رَبَّنَا آمَنَّا) [آل عمران: ٦٣]، (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا) [آل عمران: ١٩٣]، وفي قول المنافق: (إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) [البقرة: ١٤]، وقد استقصينا القول فيه في أول البقرة، ومحالٌ تصور التمادي في الغفلة من قوله تعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر: ٣٠]، والمخاطب حبيب الله صلوات الله وسلامه عليه، بل هو بشارة ووعدٌ له، وتهديدٌ ووعيدٌ لمخالفيه.
وروينا عن مسلم، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسولالهل صلى الله عليه وسلم: "من أحب لقاء الله، أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله، كره الله لقاءه"، والموت قبل لقائه. وفي رواية للبخاري من طريق همام عن قتادة، فقالت عائشة أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت، قال: "ليس ذلك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت، بشر برضوان الله وكرامته، فليس شيءٌ أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضره الموتُ بُشر بعذاب الله


الصفحة التالية
Icon