في الخفية قبل أن ينتشر الناس، وحين يأوون إلى مساكنهم.
[﴿قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ ٦].
أي: يعلم كل سر خفي في السماوات والأرض، ومن جملته ما تسرونه أنتم من الكيد لرسوله - ﷺ -، وبراءته مما تبهتونه به، وهو يجازيكم ويجازيه على ما علم منكم وعلم منه. فإن قلت: كيف طابق قوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ هذا المعنى؟ قلت: لما كان ما تقدمه في معنى الوعيد عقبه بما يدل على القدرة عليه، لأنه لا يوصف بالمغفرة والرحمة إلا القادر على العقوبة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (بما يدل على القدرة عليه، لأنه لا يوصف بالمغفرة والرحمة إلا القادرة على العقوبة)، يعني: لا يقال: رحم فلانٌ، أو غفر فلانٌ، إلا لمن له القدرة على العقوبة والانتقام، لا للعاجز الضعيف، وأ نشد لابن هانئ:

فعفوت عني عفو مقتدرٍ حلت له نقمٌ فألغاها
فدل قوله: ﴿غَفُورًا رَحِيمًا﴾ على القدرة التامة الكاملة بالكناية، وأنت تعلم أن الكناية لا تنافي إرادة الحقيقة ولا تستدعيها أيضاً. وهاهنا قامت القرينة على إرادة مجرد الاقتدار العظيم. نعم، في إيثارهما تعييرٌ لهم، ونعيٌ على فعلهم، يعني: إنكم فيما أنتم فيه بحيث يتصدى لعذابكم من صفته الغفران والرحمة.
قال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال: ذكر المغفرة والرحمة بعد ذلك المعنى لأجل أن يعرفوا أن هذه الذنوب العظيمة المتجاوزة عن الحد مفقودةٌ إن تابوا، وأن رحمته واصلةٌ إليهم بعدها، وأن لا ييأسوا من رحمته بما فرط منهم مع إصرارهم عليه من المعاداة والمخاصمة الشديدة.


الصفحة التالية
Icon