والمعنى: أنه ابتلى المرسلين بالمرسل إليهم، وبمناصبتهم لهم العداوة، وأقاويلهم الخارجة عن حدّ الإنصاف، وأنواع أذاهم، وطلب منهم الصبر الجميل، ونحوه (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [آل عمران: ١٨٦]. وموقع (أَتَصْبِرُونَ) بعد ذكر الفتنة موقع (أَيُّكُمْ) بعد الابتلاء في قوله: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [هود: ٧ الملك: ٢] (بَصِيراً): عالما بالصواب فيما يبتلي به وغيره فلا يضيقنّ صدرك، ولا يستخفنك أقاويلهم فإن في صبرك عليها سعادتك وفوزك في الدارين. وقيل: هو تسلية له عما عيروه به من الفقر، حين قالوا: (أَوْ يُلْقَى إلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ) [الفرقان: ٨]، وأنه جعل الأغنياء فتنه للفقراء؛ لينظر هل يصبرون؟ وأنها حكمته ومشيئته: يغنى من يشاء ويفقر من يشاء. وقيل: جعلناك فتنة لهم، لأنك لو كنت غنيا صاحب كنوز وجنان لكان ميلهم إليك وطاعتهم لك للدنيا،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وموقع ﴿أَتَصْبِرُونَ﴾ بعد ذكر الفتنة موقع ﴿أَيُّكُمْ﴾ بعد الابتلاء)، وقال بعضهم: ﴿أَيُّكُمْ﴾ ليس بتعليقٍ لسبق المفعول الأول، ولكن جملةٌ واقعةٌ موقع المفعول الثاني، وكذلك ﴿أَتَصْبِرُونَ﴾، لأن قوله: ﴿لِبَعْضٍ﴾ دالٌ على أن التقدير: وجعلنا بعضكم فتنة بعضٍ أتصبرون، لأن معمول المصدر لا يتقدم عليه بل هو دالٌ على معموله. وقال صاحب "التقريب": يريد أنه ليس بتعليق، لذكر المفعول الأول فيها، وفيه نظرٌ سيأتي في "الملك".
وقلت: نعم، إنه ليس بتعليقٍ لقوله: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ﴾، لأنه أحد مفعوليه، ولكنه تعليقٌ لفعلٍ مضمر يدل عليه المذكور كما وجد بخط المصنف: إن تعلق قوله: ﴿أَتَصْبِرُونَ﴾ بقوله: ﴿فِتْنَةً﴾ تعلق ﴿أَيُّكُمْ﴾ بقوله: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ﴾ والمعنى: وجعلنا بعضكم لبعضٍ فتنةً لنعلم أيكم أحسن صبراً، وكما ابتليناكم لنعلم أيكم أحسن عملاً. وقد صرح بعيد هذا بما ينبئ عن هذا المعنى، وهو قوله: "وأنه جعل الأغنياء فتنةً للفقراء لينظر هل يصبرون".
قوله: (وقيل: جعلناك فتنةً لهم)، أي: للمشركين، هو عطفٌ على قوله: "أنه ابتلى المرسلين بالمرسل إليهم، وبمناصبتهم لهم".


الصفحة التالية
Icon