قلت: لأنّ قولهم: لولا أنزل عليه جملة: معناه: لم أنزل مفرّقا؟ والدليل على فساد هذا الاعتراض: أنهم عجزوا عن أن يأتوا بنجم واحد من نجومه، وتحدّوا بسورة واحدة من أصغر السور، فأبرزوا صفحة عجزهم وسجلوا به على أنفسهم حين لاذوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القول بالموجب، أي: نعم، هو كما يقولون أنزل مفرقاً على خلاف ما أنزلت الكتب الثلاثة، أي: التوراة والإنجيل والزبور، والحكمة فيه أن يقوي بتفريقه فؤاد الرسول - ﷺ -، حتى يعيه ويحفظه ويبين لأمته ما يسنح له من الحوادث المتجددة، ويجيب أسئلة السائلين، ويظهر ما يقتضيه الوقت من الأحكام، وينسخه بحسب المصالح، وفي الكلام التفاتٌ، والله تعالى أعلم.
قوله: (فأبرزوا صفحة عجزهم)، الأساس: نظر إليه بصفح وجهه، أي: بجانبه، وكتب صفحتي الورقة. شبه عجزهم المكنون فيهم بكتابٍ فيه أسرارٌ لا يكشف، تشبيهاً بليغاً، ثم خيل أنه كتابٌ بعينه، فأخذ الوهم في تصويره بصورته، وإثبات ما يلازم الكتاب عند العرض من الصفحة، ثم شبه هذا المتوهم بمثله من المحق، ثم أطلق المحقق وأريد المتوهم، وأضيف إلى المشبه الأول، ليكون قرينةً مانعةً عن إرادة الحقيقة، فهي من الاستعارة المكنية المستلزمة للتخييلية، كأنهم أقروا بالعجز، وكتبوا على أنفسهم كتاباً، وشهروا عن صفحاته بين الناس، فعلى هذا: "وسجلوا على أنفسهم" ترشيحٌ للاستعارة، والدليل على التسجيل بالعجز اختيارهم أمرين دل كل واحدٍ على أن السيل قد بلغ الزبي، أحدهما اختيارهم الحرب على الإتيان بأقصر سورة، كما قال في الخطبة: فما أعرضوا عن معارضة الحجة إلا لعلمهم أن البحر قد زخر فطم على الكواكب.
وثانيهما: الطعن بقولهم: ﴿لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾، فهذا دل على أن إفحامهم بلغ غايته، لأن ديدان المحجوج عليه أن يتشبث بما هو عليه، وإليه الإشارة بقوله: "كأنهم قدروا على تفاريقه حتى يقدروا على جملته".
قوله: (لاذوا)، الأساس: لاذ به لياذاً، ولاوذته لواذاً، واعتصم بلوذ الجبل بجانبه.


الصفحة التالية
Icon