التسليم والإقرار، وهم على غاية الجحود والإنكار: سخرية واستهزاء، ولو لم يستهزئوا لقالوا: أهذا الذي زعم أو ادّعى أنه مبعوث من عند الله رسولا؟ وقولهم: (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا) دليل على فرط مجاهدة رسول الله ﷺ في دعوتهم، وبذله قصارى الوسع والطاقة في استعطافهم، مع عرض الآيات والمعجزات عليهم حتى شارفوا- بزعمهم- أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام، لولا فرط لجاجهم واستمساكهم بعبادة آلهتهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فباطلٌ، لأنه صلوات الله عليه كان أحسن منهم خلقةً على أن لم يكن يدعي ذلك. وأما الثاني فكذلك، لأنه صلوات الله عليه ادعى التميز عنهم بإظهار المعجزة، وأنهم ما قدروا على القدح في حجته، ففي الحقيقة هم الذين استحقوا أن يهزأ بهم، ويحقر شأنهم، ثم إنهم لوقاحتهم قلبوا القضية، وذلك يدل على أنه ليس للمبطل في أكثر الأوقات إلا السفاهة.
قوله: (ولو لم يستهزئوا لقالوا: أهذا الذي زعم أنه مبعوثٌ من عند الله رسولاً؟ )، لأن من مقتضى الظاهر أن يترجموا عن معتقدهم بقولهم: أهذا الذي زعم أنه مبعوثٌ من عند الله؟ فلما أتوا بالفعل الماضي وأوقعوا رسولاً حالاً من المفعول، وجعلوا الجملة صلة الموصول، أعلموا بأنه مقررٌ عندهم أنه رسولٌ ثابت الرسالة، فلو لم يحمل على الاستهزاء، لأن القوم كفرةٌ معاندةٌ، لا يكون له معنى.
قوله: (ذليلٌ على فرط مجاهدة الرسول - ﷺ - في دعوتهم)، قال الإمام: وتدل الآية على اعتراف القوم بأنهم ما اعترضوا على الدلائل كلها إلا بمحض الجمود والتقليد، لأن قولهم: ﴿لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا﴾ إشارةٌ إلى الجمود والإصرار، كدأب الجهال، وإلى أنهم مقهورون تحت حجته صلوات الله عليه، وما كان في أيديهم إلا مجرد الوقاحة. وإلى أنهم سلموا في آخر الأمر قوة الحجة ورزانة العقل، فالقوم لما جمعوا بين الاستهزاء والاستحقار، وبين رزانة العقل وقوة الحجة، دل على أنهم كانوا متحيرين في أمره.


الصفحة التالية
Icon