وأن يربؤوا بأنفسهم عن مخالطة القاذورات كلها كما ربأ بهم ربهم. فإن قلت: لم خص الأنعام من بين ما خلق من الحيوان الشارب؟ قلت: لأن الطير والوحش تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب بخلاف الأنعام، ولأنها قنية الأناسي، وعامة منافعهم متعلقة بها، فكان الإنعام عليهم بسقى أنعامهم كالإنعام بسقيهم. فإن قلت: فما معنى تنكير الأنعام والأناسي ووصفها بالكثرة؟ قلت: معنى ذلك أن عليه الناس وجلهم منيخون بالقرب من الأودية والأنهار ومنابع الماء، ففيهم غنية عن سقي السماء، وأعقابهم - وهم كثير منهم - لا يعيشهم إلا ما ينزل الله من رحمته وسقيا سمائه، وكذلك قوله: (لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) يريد بعض بلاد هؤلاء المبتعدين عن مظان الماء. فإن قلت: لم قدم إحياء الأرض وسقى الأنعام على سقى الأناسي؟ قلت: لأنّ حياة الأناسىّ بحياة أرضهم وحياة أنعامهم، فقدم ما هو سبب حياتهم وتعيشهم على سقيهم، ولأنهم إذا ظفروا بما يكون سقيا أرضهم ومواشيهم، لم يعدموا سقياهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وأن يربؤوا بأنفسهم)، الجوهري: المربأة: المرقبة، وقولهم: إني لأربأ بك عن هذا الأمر، أي: أرفعك عنه.
قوله: (أن علية الناس)، الأساس: العلية: جمع علي، أي: شريفٌ رفيعٌ، مثل: صبيٍّ وصبيةٍ، وفي استعمالهم: علية الناس: أكثرهم، يقولون: علية متاعك رديٌ وفي قول المصنف: "علية الناس وجلهم" ثم في "وأعقابهم، وهم كثيرٌ منهم": لطيفةٌ، وأن المراد من ﴿وَأَنَاسِىَّ كَثِيرًا﴾: كثيراً في أنفسهم، وإن كانوا بقايا أكثر الناس.
قوله: (ولأنهم إذا ظفروا بما يكون سقيا أرضهم)، جوابٌ آخر، والجواب الأول مبنيٌ على تقدم الأسباب على المسببات، والثاني على تقديم ما يشتد فيه الاحتياج إلى الماء ويكثر به الانتفاع، فإن انتفاع الإنسان بحياة الأرض أكثر، واهتمامه بسقياها أشد من سقيا الأنعام، ثم اهتمامه بسقيا الأنعام أقدم من سقيا نفسه، لأنهم إذا ظفروا بما يكون سقيا أرضهم.