..................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وسعه ومجهوده، وبلغ ذلك إلى أن خوطب بقوله: ﴿لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: ٧٤]، وبقوله: ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ [الإسراء: ٧٣]، ولذلك قال: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ﴾ أي: أتحسب أنك إن أطعتهم فيما يريدونك عليه يسمعون قولك، أو يعقلون الآيات، ويشكرون نعم الله عليهم، فإنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً. ألا ترى كيف غفلوا عن أظهر الأشياء دلالةً وهو مد الظل وقبضه، وغمطوا النعم كفراناً، وهو جعل الليل لباساً لهم، والنهار نشوراً، وإرسال الرياح وإنزال الماء لإحياء أراضيهم واستقاء مواشيهم، وإذا كان كذلك كيف تطيعهم فيما يريدونك، كأنك لم تستقل بأعباء النذارة، ولو شئنا لخففنا عنك وإنما قصرنا الأمر عليك تفضيلاً لك على سائر الرسل، فقابل ذلك بالصبر والجهاد الكبير، ولا تطعهم فيما يريدونك عليه، وجاهدهم بالقرآن جهاداً كبيراً.
ولابد من هذا التأويل، لا ما قيل: إنها تدل على التأديب وعلى أنه سبحانه وتعالى قادرٌ على أن يبعث في كل قريةٍ مثل محمدٍ صلوات الله عليه، لأن الفاء للسببية، والأمر بالجهاد المؤكد بقوله: ﴿جِهَادًا﴾، ووصفه بالكبير بعد النهي عن طاعة الكفرة موجبٌ لذلك، فإن عظم السبب يدل على عظم المسبب وعكسه، وإليه ينظر قوله صلوات الله عليه: "أعطيت خمساً لم يطعن أحدٌ قبلي: كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصةً، وبعثت إلى كل أحمر وأسود". الحديث، أخرجه البخاري ومسلمٌ عن جابر.
ويعضده ما ذكرنا أن قوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ واردٌ على نهج براعة الاستهلال، وهو مشتملٌ على هذا المعنى: فإن إنزال القرآن وتخصيصه بما يدل على كونه فارقاً بين الحق والباطل، وكون منزله معظماً في ذاته مباركاً في صفاته موجبٌ لأن لا يختص إنذار رسوله بقوم دون قوم، بل يكون للعالمين من الثقلين نذيراً، فإذن المعنى الذي سيقت هذه السورة الكريمة له: الحديث في الرسول وإنذاره، وبقية المعاني دائرةٌ عليه، ومن ثم ذكر إلى ذكر الآيات الدالة على الوحدانية من دلائل الآفاق