جُعل كل واحد منهما في صورة الباغي على صاحبه، فهو يتعوّذ منه. وهي من أحسن الاستعارات وأشهدها على البلاغة.
[(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً)].
أراد: فقسم البشر قسمين ذوي نسب، أي: ذكورا ينسب إليهم، فيقال: فلان بن فلان، وفلانة بنت فلان، وذوات صهر: أى إناثا يصاهر بهنّ، ونحوه قوله تعالى: (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) [القيامة: ٣٩]. (وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) حيث خلق من النطفة الواحدة بشرا نوعين: ذكرا وأنثى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (جعل كل واحدٍ)، شروعٌ في بيان المجاز، ولما كان هذا المجاز استعارةً، والاستعارة مسبوقة بالتشبيه، قال: "في صورة الباغي"، شبه البحرين بطائفتين متقابلتين تريد كل واحدةٍ منهما بغي صاحبتها ومضادتها، ثم إنهما امتنعا من ذلك لمانع قوي ودافع مجبر، فكما يقال ثمة لامتناع الاختلاط: إنهما لا يبغيان، كذلك قيل هاهنا: لا يبغيان، فهو استعارةٌ مصرحةٌ تمثيلية، ثم بولغ فيها هاهنا، حيث جعل هذا المعنى المستعار كالملفوظ والمقول، كما قال: "كأن كل واحدٍ من البحرين يعوذ من صاحبه"، فانقلبت المصرحة مكنيةً. ولا ارتياب أن الاستعارة كلما كانت أبعد من التشبيه وأوغل في التخيل، كانت أحسن، والمكنية ابعد من المصرحة، فكما أن التشبيه مقدمةٌ للمصرحة، كذلك المصرحة مقدمةٌ للمكنية، فإنك تقول أولاً: المنية سبعٌ، ثم تدخل المشبه في جنس المشبه به في المصرحة، وإذا أردت المبالغة جعلت المشبه عين المشبه به في التخييل، ثم يتخيل له لازمه قائلاً: أنياب المنية نشبت بفلان، كذلك هاهنا، جعل كل واحدٍ من البحرين بعد تشبيههما بطائفتين متقابلتين وإدخال المشبه في جنس المشبه به إدخالاً بليغاً في صورة الباغي على صاحبه، فهو يتعوذ منه، ولهذا قال: "وهي من أحسن الاستعارات".
قوله: (خلق من النطفة الواحدة بشراً نوعين)، "نوعين" بدلٌ من "بشراً"، لأنه جنسٌ،


الصفحة التالية
Icon