فرأيت عبادتي لها عبادة للعدوّ، فاجتنبتها وآثرت عبادة من الخير كله منه، وأراهم بذلك أنها نصيحة نصح بها نفسه أوّلا وبنى عليها تدبير أمره، لينظروا فيقولوا: ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه، وما أراد لنا إلا ما أراد لروحه، ليكون أدعى لهم إلى القبول، وأبعث على الاستماع منه. ولو قال: فإنه عدوّ لكم لم يكن بتلك المثابة، ولأنه دخل في باب من التعريض، وقد يبلغ التعريض للمنصوح ما لا يبلغه التصريح، لأنه يتأمّل فيه، فربما قادة التأمّل إلى التقبل. ومنه ما يحكى عن الشافعي رحمه الله: أنّ رجلا واجهه بشيء فقال: لو كنت بحيث أنت، لاحتجت إلى أدب، وسمع رجل ناسا يتحدثون في الحجر فقال: ما هو ببيتي ولا بيتكم. والعدوّ والصديق: يجيئان في معنى الوحدة والجماعة. قال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كنتم تعبدونه أنتم وآباؤكم الأقدمون، هل عرفتم أن تلك العبادة كانت في الحقيقة هي عبادة الأعداء، وهل رأيت عاقلاً يعبد عدوه، ومن ضره أقرب من نفعه، ويترك عبادة رب العالمين الذي وسعت رحمته كل شيء، وهو الذي خلقه، ورزقه، وأحياه، وأماته؟ فعرض بالكلام استدراجاً ليكون أدخل في النصح، وإليه الإشارة بقوله: "ربما قاده التأمل إلى التقبل".
قوله: (ولأنه دخل في بابٍ من التعريض)، نحوه قوله تعالى: ﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [يس: ٢٢]، وهذا العريض يحتمل أن يكون من الكناية، وأن يكون من المجاز. فإذا قيل: إن الأصنام لا تصلح أن تكون عدواً لإبراهيم عليه السلام، كان مجازاً، وإلا فيكون كنايةً، ونحوه قولك: آذيتني فستعرف. قال صاحب "المفتاح": إذا أردت به المخاطب ومع المخاطب إنساناً آخر، كان من الكناية، وإن لم ترد إلا غير المخاطب كان من المجاز.
قوله: (وسمع رجلٌ ناساً يتحدثون)، قيل: هو علي بن سند مجاور مكة. والحجر بكسر الحاء: الحطيم المدار بالبيت.