تصطك الركب، فلما قرّرهم في الإبداء بأنه من الله، احتج عليهم بأن الإعادة إنشاء مثل الإبداء، فإذا كان الله الذي لا يعجزه شيء هو الذي لم يعجزه الإبداء، فهو الذي وجب أن لا تعجزه الإعادة، فكأنه قال: ثم ذاك الذي أنشأ النشأة الأولى؛ هو الذي ينشئ النشأة الآخرة، فللدلالة والتنبيه على هذا المعنى أبرز اسمه وأوقعه مبتدأ. (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) تعذيبه (وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ) رحمته، ومتعلق المشيئتين مفسر مبين في مواضع من القرآن، وهو من يستوجبهما من الكافر والفاسق إذا لم يتوبا، ومن المعصوم والتائب.
(تُقْلَبُونَ) تردون وترجعون. (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) ربكم أى: لا تفوتونه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (تَصْطَكُّ الرُّكَبُ) وهي كنايةٌ عن موضع الخلافِ، ومَقامِ جُثُوِّ المُناظِرينَ للجِدالِ حتى تَصْطَكَّ رُكَبُهم.
قولهُ: (فلّما قَرَّرهُم) أي: جَعلَهم مُقرِّين مُعترفينَ.
قوله: (فكأنه قال: ثمَّ ذاكَ الذي أنشأَ النَّشأَة الأُولى هو الذي يُنشئُ النشأةَ الآخِرةَ)
يعني: إنّما أعادَ في عَجُزِ الآيتَينِ ما بدأَ في صَدرِهِما ليكونَ كلُّ من صَدْر الآيتَينِ وعَجُزِهِما مُسَجّلاً بالاسم المُتَجلِّي في هذا المقام، لِمَعْنى القادرية التامَّةِ والعالِمِيَّة الكاملةِ، والمعنى: فلمّا قرَّرهم في قوله: ﴿يُبْدِئُ اللهُ الخَلْقَ﴾ بأنَّه منَ الله القادرِ العالِمِ، ثم احتجَّ عليهم في قوله: ﴿ثُمَّ الله يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الأَخِرَةَ﴾ بأنه أيضًا منه ولا فَرْقَ بينهما.
قال الإمام: أشار في الآية الأُولى إلى الدَّليل النَّفْسيِّ، وفي الثانية إلى الآفاقيِّ، يعني قوله: ﴿سِيرُوا فِي الأَرْضِ﴾، وعندَه تَمَّ الدَّليلانِ، فأكَّده بإظهار اسمِ الذاتِ الذيَ يُفْهِمُ المسمّى بصفاتِ كَمالِه، ونُعُوتِ جَلالِه؛ ليقعَ في الذِّهن كمالُ قُدرتِه، وشُمولُ علمِه، ونُفوذُ إرادتِه. هذا تلخيص كلامه مُفَسَّرٌ مُبَيَّنٌ في مواضعَ، فَسره في ((النساء)) عند قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ﴾ [النساء: ٤٨] مُستوفٍي على مذهبه، وأَجبْنا عنه.


الصفحة التالية
Icon