كفروا به وهو أمىّ بعيد من الريب، فكأنه قال: هؤلاء المبطلون في كفرهم به لو لم يكن أمّيًا لارتابوا أشدّ الريب؛ فحين ليس بقارئ كاتٍب فلا وجه لارتيابهم. وشيءٌ آخر: وهو أن سائر الأنبياء عليهم السلام لم يكونوا أمّيين، ووجب الإيمان بهم وبما جاءوا به، لكونهم مصدقين من جهة الحكيم بالمعجزات، فهب أنه قارئ كاتب فما لهم لم يؤمنوا به من الوجه الذي آمنوا منه بموسى وعيسى عليهما السلام؟ على أن المنزلين ليسا بمعجزين، وهذا المنزل معجز، فإذن: هم مبطلون حيث لم يؤمنوا به وهو أمى، ومبطلون لو لم يؤمنوا به وهو غير أمى. فإن قلت: ما فائدة قوله: (بيمينك)؟ قلت: ذكر اليمين وهي الجارحة التي يزاول بها الخط: زيادة تصويٍر لما نفى عنه من كونه كاتبا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وشيءٌ آخَرُ) يعني: سَمّاهُم مُبْطِلينَ؛ لأنَّهم لم يَنظروا إلى الدَّليل، وما يُثبتُ به رسالتَه من إظهار المُعجزةِ بعد سَبْقِ الدَّعوى كما ثَبتَتْ رسالةُ سائرِ الأنبياءِ، وحينئذٍ لم يَفْتقروا إلى النَّظَر في كَوْنه أُمِّيًّا أو غيرَ أُمِّيٍّ، وهو المرادُ من قوله: ((فما لهم لم يُؤمنوا به مِنَ الوَجْهِ الذي آمَنُوا منه بموسى وعيسى عليهما السلام))، ومعَ هذا انضَمَّ معه ما يَزيدُ به الدَّليلُ إيضاحًا، وهو أنَّه أُمِّيٌّ لم يقرا ولم يَكتبْ، فهو أَولى بالقَبُولِ، وعلى كلِّ حالٍ إنَّهم مُبْطِلُونَ، سواءٌ كان أُمِّيًّا أو لم يَكنْ.
وهذا إنَّما يَستقيمُ معَ المشركينَ؛ لأنَّ أهلَ الكتاب يُثْبتون نُبوَّتَه بأماراتٍ يَجِدُونها في كُتبهم، وهي أنَّه أُمِّيٌّ لا يكتبُ ولا يقرأُ، فلَهُم أن يقولوا: أنت نبيٌّ، لكنْ لستَ بصاحِبنا. وإلى هذا يُنْظَر قولُ صاحبِ ((التَّقريب)): هذا الوجهُ إنَّما يَرِدُ على المشركين لا على أهل الكتابِ، إذْ نَعْتُه عندَهم أنَّه أُمِّيٌّ.
قوله: (زيادةُ تَصْويرٍ لِمَا نُفِيَ عنه من كَوْنه كاتبًا) يعني: هو مِنْ أُسلوب قولِهم: نَظَرتُه بعَيني، وأَخذتُه بيَدي، وقلتُه بفَمِي.
فإن قلتَ: كيف جَمَعَ بينَ هذا وبينَ ما رَوى البخاريُّ ومسلمٌ والإمامُ أحمدُ والدارميُّ عن البَراء بن عازبٍ، قال: اعتَمَر رسولُ الله ﷺ وساقوا الحديثَ إلى قوله: فلما كَتبوا الكتابَ


الصفحة التالية
Icon