ذلك، ثم قال: (أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ) آيةً مغنيةً عن سائر الآيات -إن كانوا طالبين للحق غير متعنتين- هذا القرآن الذي تدوم تلاوته عليهم في كل مكاٍن وزمان فلا يزال معهم آيةً ثابتةً لا تزول ولا تضمحلّ. كما تزول كل آيةٍ بعد كونها، وتكون في مكاٍن دون مكان.
إنّ في مثل هذه الآية الموجودة في كل مكاٍن وزماٍن إلى آخر الدهر (لَرَحْمَةً): لنعمةً عظيمةً لا تشكر، وتذكرةً (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) وقيل: أو لم يكفهم، يعني: اليهود
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (هذا القرآنُ الذي تَدُوم تلاوتُه عليهم في كلِّ مكانٍ) إلى آخره، هذه المُبالَغاتُ إنَّما نَشأتْ من وضع ﴿إِنَّا أَنزَلِنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ موضعَ ((القرآنِ))؛ لأنَّه مشتملٌ على صيغة التَّعظيمِ، فدلَّ على عظمة المنزَّل، واللاّم في ﴿اَلْكِتَابَ﴾ للجنس، فدلَّ على الكمالِ، أو للعهد فدلَّ على ما عُرف واشتُهر في البلاغة.
ثم في استئنافِ ﴿يُتْلَى﴾ وتَخصِيصِه بالمضارع وجَعْلِه علَّةً للمنزَّل الدلالةُ على الاستمرار زمانًا ومكانًا، وإليه الإشارةُ بقوله: ((هذا القرآن الذي تَدُوم تِلاوتُه عليهم في كلِّ مكانٍ وزمانٍ))، ثم تعليل الجملة بقوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً﴾ تَتْمِيمٌ لذلك المعنى.
قوله: (إنَّ في مِثْل هذه الآيةِ الموجودةِ) المِثْلُ: يُستعمل كنايةً عن ذات الشَّيء إذا كان متَّصفًا بأوصافٍ يَشترك فيها غيرُه تحقيقًا أو فرضًا، وهاهنا لمّا وَصَف القرآنَ بتلك الصفاتِ الفائقةِ وعقَّب بقوله ذلك لِيُستحضرَ بجميع صفاتِه، وآذَنَ بأنَّ القرآنَ جديرٌ بأنْ يكونَ رحمةً وذِكْرى، لِمَا له تلك الخِصَالُ الكاملةُ على سبيل التَّعليل. والقولِ الكُلِّيّ، حَسُنَ أن يُقالَ: إنَّ في مثل هذه الآيةِ كذا وكذا، ونَظيرُه في الكناية قولُهم: العَربُ لا تَخْفِرُ الذّْمَمَ.
قوله: (﴿لَرَحْمَةً﴾ لَنِعْمَةً عظيمةً لا تُشْكَرُ) يُريد: أَنَّ التَّتكيرَ في ﴿لَرَحْمَةً وَذِكْرَى﴾ للتَّعظيم، وأنَّها رحمة لا يُقادَرُ قَدْرُها، وتَذكرةٌ؛ أي: تَذْكرة للمؤمنينَ. وفيه تعريضٌ بمَن لم يَرفعْ به رأسًا، ويقترحُ آياتٍ غيرَها، لا نِسْبةَ بينَها وبينَها، يعني: أَوْلَيناهُم تلكَ النِّعمةَ المُتكاثِرةَ الفوائدِ لِيَشْكُروها ويَعْرفوا حقَّها بأنْ يؤمنوا، وهم عَكَسوا وكَفَروا بها وقالوا: لولا نُزِّل عليه آيةٌ.