وأما قولهم: (افْتَراهُ) فإما قول متعنٍت مع علمه أنه من الله لظهور الإعجاز له، أو جاهٍل يقوله قبل التأمل والنظر؛ لأنه سمع الناس يقولونه. (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) كقوله: (ما أنذر آباؤهم)] يس: ٦ [وذلك أن قريشًا لم يبعث الله إليهم رسولًا قبل محمد صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: فإذا لم يأتهم نذير لم تقم عليهم حجة. قلت: أما قيام الحجة بالشرائع التي لا يدرك علمها إلا بالرسل فلا، وأما قيامها بمعرفة الله وتوحيده وحكمته فنعم؛ لأن أدلة العقل الموصلة إلى ذلك معهم في كل زماٍن. (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) فيه وجهان: أن يكون على الترجي من رسول الله ﷺ كما كان (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ)] طه: ٤٤ [على الترجي من موسى وهارون عليهما السلام، وأن يستعار لفظ الترجي للإرادة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أمّا قِيام الحُجَّةِ بالشرائع) الجواب ليس بشيءٍ؛ لأنَّ الأنبياءَ لم تَزَل مبعوثةً والحجةُ بهم لازمةً، على أنَّ المرادَ: ما أتاهم من نذير منهم.
قال الزَّجّاجُ: أمّا الإنذارُ بما تقدَّم من رُسلِ الله فعلى آبائهم به الحُجَّةُ، وعليهم أيضًا؛ لأنَّ الله لا يُعذِّب إلاَّ مَن كَفرَ بالرُّسلِ، والدَّليلُ عليه قولُه: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: ١٥]، فعلى هذا قولُه: ﴿مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ﴾ أي: رسولٌ منهم ومن قَومِهم يُنذرهم خاصَّةً وعامَّةً كافة النّاس.
قوله: (لأنَّ أدلةَ العَقل المُوصِلة إلى ذلك معهم)، الانتصاف: مَذهبُنا أنَّه لا تُدرَكُ أحكامُ التَّكليفِ إلا بالشَّرع، وقاعدةُ الحُسنِ والقُبْحِ قد تكرَّر إبطالُها، فتعرض عمّا يقولُه حتَّى يخوضوا في حديثٍ غيرِه، وإنّما قامتِ الحُجَّةُ على العرب بمَن تقدَّم مِن الرُّسل كأبيهم إسماعيلَ، وقولُه: ﴿مَّا أَتَاهُم﴾ يعني: في زمانه صلى الله عليه وسلم.


الصفحة التالية
Icon