الفرصة ثم لم تنتهزها؛ استبعادًا لتركه الانتهاز. ومنه (ثم) في بيت الحماسة:

لا يكشف الغمّاء إلا ابن حرّة يرى غمرات الموت ثمّ يزورها
استبعد أن يزور غمرات الموت بعد أن رآها واستيقنها واطلع على شدّتها. فإن قلت: هلا قيل: إنا منه منتقمون؟ قلت: لما جعله أظلم كل ظالٍم، ثم توعد المجرمين عامةً بالانتقام منهم، فقد دلّ على إصابة الأظلم النصيب الأوفر من الانتقام، ولو قاله بالضمير لم يفد هذه الفائدة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لا يَكشِفُ الغَمّاء) البيت، الغَما والغَمُّ والغُمَّة: مرجعها إلى التَّغطية، والمراد هاهنا: شدةُ اقتحام الحربِ؛ أي: لا يَكشِفُ الأمرَ العظيمَ إلاَّ رجلٌ كريم يرى قحم الموت ثم يتوسَّطها، وإنما قال: ابنُ حُرَّة؛ ليُهيِّجَه ويُحرِّضَه على الزَّيادة؛ أي: زيادة غَمَراتِ الموتِ بعدَ رؤيتها مستبعدةً مستنكرةً في العقل والعادةِ، وهو مع ذلك يزورها بعد استيفائه إيّاها، بالغَ في مدحِه بذلك؛ حيث باشَرَ مثل هذا المستبعدِ بشجاعته، وكذا في الآية بالغَ في الذمِّ؛ ولهذا قال:
((أنَّ الإعراض عن مثل آياتِ الله في وُضوحِها وإنارتِها مستبعدٌ في العقل والعَدْل)).
وإنّما ذَهَب في ((ثم)) إلى المجاز وإن احتَمَل الحقيقة؛ لأنَّ الشاعرَ يمدحُ جَريًا لا يبالي بالموتِ ويقتحمُ الأهوالَ، لا أنه يَرى الغَمراتِ ثم يَمكُث زمانًا طويلاً متفكِّرًا ثم يَزُورها؛ لأنَّه ذَمٌّ له، وكذا ما في الآية؛ الأصلُ: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا﴾ [السجدة: ٢٢]، فوَضَع ((ثُمَّ)) موضعَ الفاءِ لبيان عنادِه وتَمرُّدِه.
قوله: (جعلَه أظلمَ كُلِّ ظالم، ثمَّ تَوعَّدَ المُجرِمين عامَّة بالانتقام)، فيه رائحةٌ من الاعتزالِ كما سَبق منه عند قولِه: ﴿وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾: ((بسَبب ما عملتُم منَ المعاصي والكبائِر المُوبِقَةِ))، يقال: هلاّ يجعلُه من إقامةِ المُظْهَرِ موضعَ المُضمَرِ؛ ليُؤذِنَ بأنَّ عِلَّةَ الانتقام ارتكابُ هذا المُعرض مثل هذا الجُرْمِ العظيمِ.


الصفحة التالية
Icon