فإن قلت: فقد قدم عليه نوح عليه السلام في الآية التي هي أخت هذه الآية؛ وهي قوله: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ)] الشورى: ١٣ [، ثم قدم على غيره! قلت: مورد هذه الآية على طريقة خلاف طريقة تلك؛ وذلك أنّ الله عز وجل إنما أوردها لوصف دين الإسلام بالأصالة والاستقامة، فكأنه قال: شرع لكم الدين الأصيل الذي بعث عليه نوح في العهد القديم، وبعث عليه محمد خاتم الأنبياء في العهد الحديث، وبعث عليه من توسط بينهما من الأنبياء المشاهير. فإن قلت: فماذا أراد بالميثاق الغليظ؟ قلت: أراد به ذلك الميثاق بعينه. معناه: وأخذنا منهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
السورةِ واردةٌ على تَنْويهِ فَضْلِه ورَباءِ محَلِّه، وأنه أولى بالمؤنينَ من أنفُسِهم، وأفضَلُ النبيينَ مكانةً، وأسبَقهم منزلةً، وهلمَّ جّراً إلى آخرِ السورة.
وأمّا تأخيرُ ذكْرِه ﷺ في البيتِ الذي أنشَده صاحبُ ((الانتصاف)) فللترقِّي والأخْذِ بالأفضَل فالأفضَل، وشاهِدُه تأخيرُ ذكْرِه ﷺ إذ لو قُدِّم ابتدأ الفضلُ منه، فله الفضْلُ مُتقدِّمًا ومُتأخِّرًا.
قولُه: (أرادَ به ذلك الميثاقَ بعَيْنه)، يريدُ به أنّه أُعيدَ قولُه: ﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾ توكيدًا، ويُعَلَّلُ بقوله ﴿لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ﴾ وإليه الإشارةُ بقولِه: ((أكّدَ على الأنبياءِ الدعوةَ إلى دينهِ لأجلِ إثابةِ المؤمنينَ ﴿وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا﴾، وكان أصلُ الكلام: أعدَّ للمؤمنين الإثابةَ وللكافرين التعذيب، وذِكْرُ الأنبياءِ وأخْذُ الميثاقِ العظيمِ توطئةٌ لذكْرِ إثابةِ المؤمنينَ ليُؤْذِنَ بأنّ الله تعالى سبقَتْ رحمتُه غضَبَه، ولعلّه أخفى فيه: أنّه تعالى لا يريدُ من المكلَّفين إلا الإيمانَ، ولو عُطِفَ على ﴿لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ﴾ من حيثُ المعنى؛ ليرجِعَ المعنى إلى أنّ الله أخذَ من النبيِّين ميثاقَه ليُبلِّغوا رسالاتِ ربِّهم إلى عَبيدهِ، ليَهلِكَ مَنْ هَلك عن بَيِّنة، ويحيا مَنْ حَيَّ عن بَيِّنة، ويسألَ المؤمنينَ عند تواقُفِ الأشهادِ عن صدْقِهم، فيفوزوا بما لا عَيْنٌ رأتْ ولا أذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قَلْبِ بَشَر، وليُجْزى الكافرونَ


الصفحة التالية
Icon