والجاهلية الأخرى: ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. ويجوز أن تكون الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام، والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام، فكأن المعنى: ولا تحدثن بالتبرج جاهلية في الإسلام تتشبهن بها بأهل جاهلية الكفر، ويعضده ما روى: أنّ رسول الله ﷺ قال لأبى الدرداء رضى الله عنه: «إن فيك جاهلية»، قال جاهلية كفر أم إسلام؟ فقال: «بل جاهلية كفر». أمرهن أمرًا خاصًا بالصلاة والزكاة، ثم جاء به عامًا في جميع الطاعات؛ لأن هاتين الطاعتين البدنية والمالية هما أصل سائر الطاعات، من اعتنى بهما حق اعتنائه جرّتاه إلى ما وراءهما، ثم بين أنه إنما نهاهن، وأمرهن، ووعظهن؛ لئلا يقارف أهل بيت رسول الله ﷺ المآثم، وليتصوّنوا عنها بالتقوى. واستعار للذنوب الرجس،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولُه: (ولا تُحْدِثْنَ بالتبرُّج جاهليةً في الإسلام)، قال الزجاج: التبرُّج: إظهارُ ما يُستدعى به شهوة الرجل، والأشبَهُ أن يراد بالجاهلية الأولى مَنْ كان منذ زمنِ عيسى إلى زمن محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم هم الجاهلية المعروفون، وكانوا يتخذون البغايا الفواجر، وإنما قيل الأولى، لأن كلّ مُتقدمٍ ومُتقدّمةٍ أوّلُ وأُولى؛ أي: إنَّهم تقدموا أمةَ محمد صلى الله عليه وسلم.
قولُه: (إن فيك جاهليةً)، قال أبو ذر: إني كنت سابَبْتُ رجلاً وكانت أُمّه أعجميةً، فَعيَّرتُه بأمِّه، فشكاني إلى رسول الله ﷺ فقال: ((يا أبا ذَرّ إنك امرؤ فيك جاهلية)) قال: ((إنَّهم إخوانكم فضلكم الله عليهم فمن لم يلائمكم فبيعوه ولا تُعذِّبوا خلق الله))، أخرجَه البخاريُّ ومسلم وأبو داود والترمذي.
النهاية: فيك جاهلية؛ أي: الحالةُ التي كانت عليها العرب قبل الإسلام من الجهل بالله ورسوله وشرائع الدين والمفاخرة بالأنسابِ والتكبُّرِ والتجبُّرِ وغير ذلك.
قولُه: (لئلا يُقارِف)، الأساس: فلان يقترِفُ لعياله؛ يكتسبُ، واقترفَ الإثم، وقارفَ، وهو يقترف بكذا؛ يُتَّهم به، وهو مَقْروفٌ به.


الصفحة التالية
Icon