ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهو مَطلق لم يُعْلَمْ أنّ الحمْدَ لأيِّ شيءٍ هو لِما فيه من نعوتِ الكَمال أو لِما أنّ منه النعمةَ والإفضالَ، فقَيَّد بالنعمةِ لدلالةِ القرينةِ الأولى عليها، وآل المعنى إلى أنه المحمودُ على النعمةِ الدنيوية والمحمودُ على النعمةِ الأخروية.
قال القاضي: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ خَلْقًا ونِعمةً، فله الحمْدُ في الدنيا لكمالِ قُدرتِه وعلى تمامِ نِعْمته، ولو الحمْدُ في الآخرةِ لأنَّ ما في الآخرةِ أيضًا كذلك، وليس هذا من عَطْفِ المُقيَّدِ على المُطلقِ، فإنّ الوصفَ بما يدلُّ على أنه المُنعِم بالنِّعمِ الدُّنيويةِ قَيَّد الحمْدَ بها، وتقديمُ الصلةِ للاختصاص، فإنّ النَّعمَ الدُّنيويَة قد تكونُ بوَساطةِ مَنْ يستحقُّ الحمْدَ لأجلِها ولا كذلك نِعَمُ الآخرة.
وقلت: لعلّه أرادَ بالمُقيَّدِ الحَمدَ الثاني لأنه مُقَيَّدٌ بقَوله: ﴿فِي الْآخِرَةِ﴾، والأولُ مُطلقٌ حيثُ لم يُذكَرْ معه ((في الدنيا))، لكنَّ المصنِّفَ قَيَّدهُ بحَسبِ المُقابلة والعَطْفِ على نحوِ قول الشاعر:

عَجِبْتُ لهم إذ يَقْتلونَ نفوسَهم ومقتلُهم عند الوغى كان أعذَرا
أي: يقْتلونَ نفوسُهم في السِّلْمِ بقرينةِ الوغى، بل قَيَّده بأنّه في الدنيا لأنَّ قولَه: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ يدلُّ على ذلك لقولِه: ((ثُمَّ وصفَ ذاتَه بالإنعامِ بجميعِ النِّعَمِ الدُّنيوية))، وهذا عَيْنُ ما ذكَره القاضي، ولعله عَرَّضَ بغيرِ المُصنِّفِ.
ويُمكنُ أن يُقال: إن كُلاًّ من الحَمْدَيْن مُقَيَّدٌ ومُطلقٌ بحَسبِ التقابُلِ، فالأولُ مُقيَّدٌ ومُطلقٌ بحَسبِ التقابُلِ، فالأولُ مُقيَّدٌ بما يُنبُئ عن التعليلِ وتَرتُّبِ الحُكمِ على الوصفِ. والثاني مُطْلقٌ منه، والثاني مُقَيَّدٌ بكَوْنهِ ﴿فِي الْآخِرَةِ﴾، والأولُ مُطلَقٌ منه.
وأما إطلاقُ الأولِ فلقِلَّةِ مبالاةٍ بالدنيا وتحقيرِ شأنِها، وإطلاقُ الثاني للإيذانِ بفَخامةِ شأنِه وأنّه مما لا يدخُلُ تحْتَ الوصفِ من الإفضالِ والإكرامِ وغيرِ ذلك.


الصفحة التالية
Icon