[﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ ٤]
﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ﴾ جملةٌ مستأنَفةٌ كالتَّفسيرِ للمُجْمَل، كأنَّ قائلاً قالَ: وكيفَ كان نَبَؤُهُما؟ فقال: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ يعني: أرضَ مملكتِه؛ قد طغى فيها وجاوزَ الحدَّ في الظُّلمِ والعَسْف. ﴿شِيَعاً﴾ فِرَقًا يُشَيِّعونه على ما يُريدُ ويُطيعونه، لا يملِكُ أحدٌ منهم أن يَلوِيَ عُنُقَه. قالَ الأعشى:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إنما كانَ لأنْ يتلوه على المؤمنينَ والكافرينَ جميعاً: ﴿يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَاَ أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾ [المائدة: ٦٧]. لكن اختصاصُ المؤمنينَ بالذكرِ لانتفاعِهم به؛ فإذَنِ المرادُ بقولِه: ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [القصص: ٣] لقومٍ سيُؤمِنون، وعليه قولُه تعالى: ﴿هُدًى لِلْمُتَقِينَ﴾ [البقرة: ٢] أي: الضالينَ الصائرينَ إلى التقوى، وهُوَ مجازٌ باعتبارِ ما يُؤوّل، وقال فيه: ((إنّ الضالينَ فريقان؛ فريقٌ عُلِمَ بقاؤُهم على الضلالةِ وهُمُ المطبوعُ على قلوبِهم، وفريقٌ عُلِمَ أنّ مصيرَهم إلى الهُدى؛ فلا يكونُ هدًى للفريقِ الباقينَ على الضلالة؛ فبقى أنْ يكونَ هدًى لهؤلاء))، وإليهِ الإشارةُ بقولِه: ((إنما ينفعُ هؤلاءِ دونَ غيرِهم)).
والمعنى: نتلو عليكَ مِن نَبَإِ موسى وفرعونَ وما جرى بينَهما بقوم عُلِمَ أنّ التلاوةَ تنفَعُ فيهم دونَ مَنْ عَداهم مِنَ المُصرِّين، ونحوُه قولُه تعالى: ﴿فَذَكِرَ بِاَلْقُرْآَنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ [ق: ٤٥] قال: إنّ التذكيرَ لا ينفعُ إلا فيمنْ يخافُ الوعيدَ دونَ المُصِرِّ على الكُفر.
وقلت: هذا الإنباءُ العجيبُ الشأنِ متضمِّنٌّ لإثباتِ القضاءِ والقدر، وقد عَلِمَ الله سبحانَه وتعالى أنّ بعضًا مِنَ الذينَ يدّعونَ الإيمانَ لا يؤمنونَ بالقدَر؛ فقال: ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ تعريضاً بهم؛ فعلى هذا يمكنُ أنْ يُجعَلَ ﴿بِاَلْحَقِّ﴾ حالاً منَ المجرور؛ أي: نتلو عليكَ نبأَهُما مُلتبِسًا بالحقِّ على القضاءِ والقدر.
قولُه: (قد طغى فيها وجاوزَ الحدّ)، يعني: معنى ﴿عَلاَ فِي الأَرْضِ﴾ طغى فيها؛ مِن قولِه تعالى: ﴿لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُون عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ﴾ [القصص: ٨٣] أي: استِكبارًا وتجبُّرًا.