معناه بعقولهم، وأنه لا يلتبس عليهم إحالة الطول والقصر في عمر واحد، وعليه كلام الناس المستفيض؛ يقولون: لا يثيب الله عبدًا، ولا يعاقبه إلا بحق. وما تنعمت بلدًا ولا اجتويته إلا قل فيه ثوائى. وفيه تأويل آخر:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجوهري: النَّعْمة بالفَتْح: التنعّم، يقال: نَعّمه الله فتنَعَّم، ويقال: أتيتُ أرضَ فلان فتنَعَّمَتْني: إذا وافَقته، واجتويتُ المقام: إذا كرِهْتَ المُقامَ فيه.
قولُه: (لا يُثيب الله)، إلى آخره، فيه اعتزالٌ خَفِيٌّ وذلك أن مذهبَهم: أن استحقاقَ العقابِ بالكبيرةِ يحبطُ استحقاقَ الثوابِ بالطاعة، فعلى هذا لا يجتمعُ الثوابُ والعقابُ في شخص واحد، وأما عندَ أهلِ السّنةِ فلا يبعُدُ ذلك، لأن أهلَ النارِ من العاصِين لا يُخلَّدون فيها.
وقال القاضي: المعنى: ما يُمَدُّ من عُمرٍ يُصَيِّرهُ إلى الكِبَرِ ولا يُنْقِصُ من عمرِ المنقوصِ عُمُرُه بجَعْلِه ناقصًا، والضميرُ له وإن لم يُذكر لدلالةِ مقابلِه عليه. وهذا قريبٌ من الوجهِ الأول في المعنى.
قولهُ: (وفيه تأويلٌ آخَرُ)، إلى آخره. وقلت: القولُ الجامعُ فيه يظهَرُ من بيانِ النظمِ والعلمُ عند الله؛ وذلكَ أنه عزَّ وجلَّ ذكرَ في هذهِ الآيةِ الكريمةِ سائرَ أحوالِ الإنسانِ وتَقلُّبَه في أطوارٍ مختلفةٍ مما هو أصولُها ويُعرفُ منه توابعُها ولواحقُها على مراتبَ ثلاثٍ كما هو عليه في الوجود، وسُلِكَ فيه فنٌّ غريبٌ وأسلوبٌ عجيب، حيثُ أُخْرِجَ في جُملٍ ثلاثٍ على طريقٍ يُنبئُ عن صفاتِ جَلالِه وحُسنِ تدبيرِه مِنَ القُدرةِ الكاملةِ والعلم الشاملِ وثبوتِ القضاءِ والقدرِ بحَسب تلك المراتب، فبدأَ أوّلاً بقوله: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا﴾ إظهارًا لتصرُّفهِ فيه تلك الأطوار، وثَنّى بقولِه: ﴿وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ﴾ بيانًا للطْفِ علْمِه ونفوذِه فيما هو مِن أدقِّ أحوالِ الإنسانِ من عُلْقَةِ النطفةِ حينَ المباشرةِ واستقرارها في مكانة الرحِم، ثم ما تكابدُ الأنثى من ثِقَلِ الحمْلِ ومُقاساةِ شِدَّتِه وما يَجري عليها عند الوضع من وجع المَخاض، وما تلَطَّفَ عليها من الخلاصِ من


الصفحة التالية
Icon