الفقر مما يتبع الضعف، وكلما كان الفقير أضعف كان أفقر، وقد شهد الله سبحانه على الإنسان بالضعف في قوله: (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً)] النساء: ٢٨ [، وقال: (الله الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ)] الروم: ٥٤ [؛ ولو نكر لكان المعنى: أنتم بعض الفقراء. فإن قلت: قد قوبل (الفقراء) بـ (الغنى)، فما فائدة (الحميد)؟ قلت: لما أثبت فقرهم إليه وغناه عنهم، وليس كل غنى نافعًا بغناه إلا إذا كان الغنىّ جوادًا منعمًا، فإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليهم، واستحق عليهم الحمد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القومِ حاضرٌ وهو زيد، وبقيَّتُهم غيرُ حاضرين فقالَ له مَنْ هو حاكمٌ على القوم بعد أن عَدَّ عليه نِعَمَه في حقِّ القوم وأظهَرَ لأنهم لا يمتثِلون أمْرَهُ ولا يمتنعون عما نهاه: يا زَيْدُ أنتُم المحتاجونَ إليَّ في حصولِ فائدةِ ما أمرتُكم به وحصولِ فائدةِ ما نهيتُكم عنه، وفي غيرِهما من كل الوجوه، لا أنا محتاجٌ إليكم في حصولِ فائدتِهما أو في شيءٍ غيرِهما، لأني غَنِيٌّ على الإطلاق، حَميدٌ على الإطلاق، لا يرجعُ إليَّ نفْعٌ من أمثالِكم ولا مَذَمّةٌ من تقصيرِكم، وبعضُهم غيرُ مأمورٍ وغيرُ مَنْهيّ، إلا أنَّ الكلَّ مُفْتقرٌ إليه من جميعِ الوجوه، وهو غنيٌّ عن الكلِّ بجميعِ الوجوهِ، وهو الذي أرادَ مِن قوله: ﴿أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ﴾ والله الهادي.
وقلت: الذي يقتضيهِ النظمُ -والله أعلم-: أن يُحملَ التعريفُ في ﴿الْنَّاسُ﴾ على العهد، وفي ﴿الْفُقَرَاءُ﴾ على الجنس؛ لأنّ المخاطبينَ هم الذين خوطبوا في قوله: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ﴾ أي: ذلكم المعبودُ وهو الذي وُصِفَ بصفاتِ الجلالِ لا الذين تدعون من دونِه، وأنتُم أشدُّ الخلائق احتياجًا إليه، وهو غنيٌّ عنكم وعن عبادتِكم؛ لأنه حَميدٌ يحمَدونه وإن لم تَحْمدوه أنتم، وهو المرادُ من قوله: ((الحميد على ألسنةِ مؤمنيهم))، ويؤيِّدُه قولُه: ﴿إِن يَشَا يُذْهِبْكُمْ وَيَاتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ وتَفْسيرُه بقولِه: وهذا غَضَبٌ عليهم لاتخاذِهم له أندادًا، ولأنّ القَصْدَ من الإيرادِ إظهارُ كمالِ استغنائِهم عما يَدْعونه من دونِ الله وكمالِ افتقارِهم إلى الله عزَّ وجلّ، وغايةِ عَجْزِهم وعِظَمِ قُدرتِه.


الصفحة التالية
Icon