برؤوس الشياطين إلا قصدًا إلى أحد التشبيهين، ولكنه بعد التسمية بذلك رجع أصلًا ثالثًا يشيه به. ﴿مِنْهَا﴾: من الشجرة، أي: من طلعها ﴿فَمَالِئُونَ﴾ بطونهم؛ لما يغلبهم من الجوع الشديد، أو: يقسرون على اكلها وإن كرهوها؛ ليكون بابًا من العذاب؛ فإذا شبعوا غلبهم العطش فيسقون شرابًا من غساق أو صديد، شوبه أي: مزاجه، ﴿مِنْ حَمِيمٍ﴾ يشوي وجوههم ويقطع أمعاءهم، كما قال في صفة شراب أهل الجنة: ﴿وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ﴾ [المطففين: ٢٧]. وقرئ: (لَشُوبًا) بالضم، وهو اسم ما يشاب به، والأول تسمية بالمصدر. فغن قلت: ما معنى حرف التراخي في قوله: ﴿ثُمَّ إنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا﴾، وفي قوله: ﴿ثُمَّ إنَّ مَرْجِعَهُمْ﴾؟ قلت:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنهم اعتقدوا أن الشيطان قبيح المنظر أو أنه في الحقيقة حية عرفاء، ثم أدخل هذا الثمر لكثرة الاستعمال في جنس هذين الأصلين وصار أصلًا ثالثًا مثلهما مشبهًا به، ومثله قول التنوخي:
فانهض بنار إلى فحم كأنهما.... في العين ظلمٌ وإنصافٌ قد اتفقا
وذلك أنه لما سمع الله عز وجل نعت العدل بالنور في قوله تعالى: ﴿وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا و﴾ [الزمر: ٦٩] ورأى النبي ﷺ وصف الظلم بالظلمات في قوله: "الظلم ظلمات يوم القيامة" خيلهما شيئين لهما إنارة وإظلام وجعلهما مشبهًا بهما.
قوله: (من غساق) الغساق: المنتن البارد. والغساق -بالتخفيف-: لغة.
قوله: (شوبه أي: مزاجه) ويروى: شوبًا أي: مزاجًا، و"شوبًا" يجوز ان يكون بمعنى مشوب، وأن يكون مصدرًا على بابه، والشوب الخلط، وسمي العسل شوبًا؛ لأنه كان عندهم مزاجًا لغيره من الأشربة.


الصفحة التالية
Icon